بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي
روما، الاثنين 28 سبتبمر 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي النص الكامل لمقالة “الدولة العلمانية: بين المسيحية والإسلام”.
* * *
قد يختلط على البعض أحيانا مفهوم الدّولة العلمانيّة وأنواعها، إذ لا يتمّ التّمييز الحقيقيّ ما بين العلمانيّة الإيجابيّة (Laïcité) التي تفصل بين الدّين والدّولة بدون إلغاء الدّين بصورة عامّة، وبين العلمانيّة السّلبيّة (Laïcisme) التي تناوئ الدّين، لا بل تهدف إلى القضاء عليه.
I. نظريّة العلمانيّة الإيجابيّة ( (Laïcité
إنّ عبارة “علمانيّ” هي تعريب للكلمة اليونانيّة Laos أي الشّعب. أمّا كلمة (Laïcité) فهي أصلا عبارة فرنكوفونيّة (Cf. J. Bauberot, “Genèse du concept de laïcité en Occident”, Islam et laïcité, (sous la direction de M. Bozdemir), Paris 1996, p. 10)، وهي تعني استقلاليّة الدّولة من النّاحية الثّقافيّة والتّشريعيّة (Cf. F. Ruffini, Relazioni tra Stato-Chiesa. Lineamenti storici e sistematici, (a.c.d.) M. Broglio, Bologna 1974, p. 25.).
فالطّبيب واللاهوتيّ الإيطاليّ مارسيليو دا بادوفا (1270-1342) Marsilio da Padova هو الذي أرسا عام 1324 أساسات الدّولة العلمانيّة المعاصرة، معلنا أنّ للدّولة ملء السّلطة في الأمور الزّمنيّة والرّوحيّة على حدّ سواء؛ لكنّه رفض أفهومة السّلطة الإلهيّة، ولم يحترم استقلاليّة الكنيسة.
أمّا العلمانيّة الحقيقيّة في مفهومها اليوم، فهي السّيادة المستقلّة للدّولة في الحقل المدنيّ والحقّ الطّبيعيّ، بدون إلغاء سيادة الأديان، مع احترام حريّة الضّمير للمواطنين؛ إنّها السّيادة العليا Summa potestas للدّولة وليس عدم الاكتراث للقيم الدّينيّة (Cf. T. Goffi, Laicità politica e Chiesa, Roma 1961, pp. 42-67).
فالدّولة العلمانيّة الحقيقيّة، لا تتدخّل في شؤون المواطنين الدّينيّة بل تتّخذ موقف الحياد بالنّسبة إلى جميع الأديان؛ وهي لا تدعو إلى مذهب معيّن، ولا تحارب مذهبا، ولا تكره أحدا على اعتناق أيّ دين أو أيّ معتقد (راجع، إيلي نعيم ماضي، في سبيل العلمنة، 1976، ص. 7-8).
انطلاقا من هذه النّظرة الإيجابيّة للعلمانيّة، نستطيع القول إنّ التّكامل بين هذا النّوع من العلمانيّة والقيم الرّوحية، يؤسّس لمستقبل أفضل للإنسان.
II. العلمانيّة السّلبيّة ((Laïcisme:
انطلاقا من فكر مارسيليو دا بادوفا العلمانيّ السّلبيّ، وليد ردّة فعل حادّة على سلطة البابا آنئذ، يعتقد بعض الباحثين أنّ العلمانيّة ((Laïcisme، هي نظريّة فلسفيّة، بل واقع ثقافيّ واجتماعيّ، وتنمية مزمنة لذهنيّة تقاوم المسيحيّة (Cf. T. Goffi, Laicità politica…, pp. 67-70). إنّها ثمرة روح علمانيّة ذات عدائيّة “لحكم الإكليروس” (Cléricalisme) وتدّخلّه في كلّ شيء، وللدّيانة المسيحيّة عموما؛ ألهبت نيرانها أحقاد بعض كبار الماسونيّين في فرنسا (Cf. “Laici, laicità, laicismo”, La Civiltà Cattolica, 3609 (2000) 216) من الذين أشعلوا الثّورة الفرنسيّة (Cf. J. Moreau, Les Francs-Maçon, Paris 2001, p. 27) تحت شعار “حرّيّة إخاء مساواة”. كما يعتقد آخرون أنّها مجرّد ردّة فعل سلبيّة ضد هيمنة الإكليروس في القرون الوسطى، إذ أساء بعضهم استعمال السّلطة الكنسيّة في المسائل المدنيّة (Cf. T. Goffi, Laicità politica …, pp. 71-73). كما يختلط على البعض التّمييز بين مفهومَي العلمانيّة الإيجابيّة والعلمانيّة السّلبيّة.
والجدير بالذّكر، أنّ الدّولة الفرنسيّة التي يؤخذ عليها تاريخيّا مبدأ العلمانيّة السّلبيّة الرّافضة للدّين، قد أنشأت في الأعوام الأخيرة لجنة خاصّة لإعادة النّظر في مفهوم العلمانيّة المعاصرة، دعيت “لجنة العلمانيّة في الجمهوريّة الفرنسيّة” أو “La Commission Stasi”، يرأسها الوزير السّابق برنار ستازي Bernard Stasi؛ أرادت اللّجنة في البداية، التّأكيد على أنّ العلمانيّة ليست نقيضا للدّين، فأوضحت في تقريرها الصّادر عام 2003 الذي تناقلته وسائل الإعلام المحلّيّة والعالميّة، الوجه الإيجابيّ للعلمانيّة الفرنسيّة كمبدأ عالميّ وقيمة جمهوريّة، وقد نشأ هذا المبدأ حسب التّقرير، إبّان الثورة الفرنسيّة سنة 1789، نتيجة انفصام بين الدّولة والكنيسة إلى أن عقدت معاهدة عام 1801 بين فرنسا والكرسيّ الرّسوليّ من أجل تنظيم العلاقة بين الدّولة والمؤسّسة الدّينيّة، لا الفصل أو الحياد تجاهلا للدّين؛ كما لا يجب أن تختزل العلمانيّة بحياد الدّولة التي لا تستطيع تجاهل الواقع الرّوحيّ أو الدّينيّ. فهي تبقى إذاً، وسيلة للتّعايش بين أشخاص لا يتشاركون في المعتقدات عينها.
III. موقف الكنيسة الكاثوليكيّة من العلمانيّة
تنظر الكنيسة الكاثوليكيّة إلى العلمانيّة الصّحيحة(Laïcité) ، نظرة إيجابيّة منذ عهد البابا بيّوس الثّاني عشر الذي أعلن ما أسماه بالعلمانيّة السّليمة، كمبدأ أساسيّ من مبادئ المذهب الكاثوليكيّ. فهي تعطي لقيصر ما هو لقيصر وما لله لله (Cf. AAS, 25 (1958) 220)، وتحترم كلّ المذاهب والطّوائف في الدّولة، وتضمن حريّة المعتقد الدّينيّ وممارسة الطّقوس، وسائر النّشاطات الرّوحيّة والثّقافيّة والخيريّة. إنّها آليّة صالحة للتّواصل بين مختلف التّقاليد الرّوحيّة والدّولة. لكنّ الكنيسة تشجب بشدّة ما أسميناه بالعلمانيّة السّلبيّة (Laïcisme)، لأنّ هذا النّوع من العلمانيّة يرفض الدّين والقيم الرّوحيّة والخلقيّة المستوحاة من الكتب المقدّسة (Cf. Pontificio Consiglio della Gi
ustizia e della Pace, Compendio della Dottrina Sociale della Chiesa, Città del Vaticano, nn. 571-572).
تُعتبر العلمانيّة الإيجابيّة (Laïcité) في العقيدة الأدبيّة الكاثوليكيّة إذاً، قيمة تبنّتها الكنيسة واعترفت بها، بصفتها استقلاليّة الدّائرة المدنيّة والسّياسيّة عن الدّائرة الدّينيّة والكنسيّة، وليس عن الدّائرة الأدبيّة. وعليه، لا يحقّ للدّولة أن تتدخّل في الأعمال والنّشاطات الدّينيّة والطّقسيّة، ولا أن تجبر عليها أو تمنعها، إلاّ في حال الضّرورة التي يتطلّبها النّظام العام. كما أنّ الاعتراف بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة، والتّصرف ضمن إطار الخدمات العامّة لا يمكن أن تكون رهينة قناعات أو تصرّفات ذات طبيعة دينيّة تصدر عن مواطنين. فالعلمانيّة تعني أوّلا موقفا يكنّ احتراما للحقائق النّابعة من المعرفة الطّبيعيّة للإنسان في قلب المجتمع؛ ومن الخطأ الخلط بين الاستقلاليّة الحقّة التي يتحلّى بها الكاثوليك في السّياسة، والمطالبة بمبدأ يزدري تعليم الكنيسة الأدبيّ والاجتماعيّ (راجع، مجمع العقيدة والإيمان، مذكّرة عقيديّة بشأن قضايا تتعلّق بالتزام الكاثوليك وتصرّفهم في الحياة السّياسيّة، حاضرة الفاتيكان 2002، الرّقم 6).
إنّ من يكنه معنى العلمانيّة الصّحيحة، وهي تعني سيادة الدّولة واستقلاليّتها في إدارة الشّؤون الزّمنيّة واحترام الحرّيّة الدّينيّة لدى مواطنيها ومناوأة كلّ أشكال التّوتاليتاريّة السّياسيّة والتّيوقراطيّة، لا يتّخذ منها في الواقع، موقفاً سلبيّاً.
فالعلمانيّة التي تذود عنها الكنيسة الكاثوليكيّة، هي علمانيّة إيجابيّة وسليمة، وليست مبدأ قانونيّا بل مبدأ من مبادئ الفلسفة السّياسيّة (Cf. G. Dalla Torre, Il primate della coscienza, Roma 1992, p. 68) إذ تسعى إلى حماية الحرّيّة الدّينيّة.
IV. موقف المسلمين
يتميّز الدّين الإسلاميّ عموما، برباط وثيق بين الدّين والدّنيا والدّولة (Cf. M. Bozdemir, Islam et laïcité, Paris 1996, p. 71)، فهو يشمل كلّ شؤون الحياة، بشقيّها الدّينيّ والمدنيّ؛ وقد لا يحبّذ المسلمون أفهومة العلمانيّة التي تدعو إلى فصل الدّين عن الدّولة إذ يعتبرونها إنتاجا غربيّا صرفا، يعود إلى عصر الأنوار والثّورة الفرنسيّة. إنّها حقّا طرح مسيحيّ لكنّها في الواقع قد حاربت المسيحيّة وحوربت منها (راجع، غريغوار حدّاد، العلمانيّة الشّاملة، 2000، ص. 33).
وما الدّولة بالنّسبة إلى القوانين الدّستوريّة للدّول الإسلاميّة، إلاّ جماعة المسلمين الخاضعين لحكم القائد الدّينيّ الأعلى، (الخليفة.. أمير المؤمنين.. السّلطان..الملك…) الذي يستطيع أن يفوّض سلطته لشخص آخر (Cf. A. Rahim, I principi della giurisprudenza musulmana, Roma 1922, pp. 49-470) . فالإسلام إذاً، كشريعة ومنهاج، يختلف عن غيره من الدّيانات والشّرائع السّابقة، بما يتضمّنه من تنظيمات للعلاقات والمعاملات بين النّاس ومن قدرة على التّشريع، فهو نظام كامل وموقف شامل بما يقرّره من أحكام وقواعد ومعايير تتعلّق بالسّياسة، وتجعل من الشّورى مبدأ أصيلا من مبادئ الحكم في المجتمع.
لذا، قد ساد في العالم الإسلاميّ مفهوم سلبيّ عن العلمانيّة، يُختصر في أنّ هذه الأخيرة ليست إلاّ سيادة الحقّ الوضعيّ أي الشّريعة المدنيّة التي تقوم على العقلانيّة الحرّة بدون الأخذ بالاعتبار مفهوم الوحي الإلهيّ، ممّا يعني من وجهة النّظر الإسلاميّة أنّها الوجه الآخر للإلحاد، إذ تهدف إلى محاربة الدّين عموما، والإسلام خصوصا.
فانطلاقا من شموليّة الدّين الإسلاميّ، يمكن أن تُفهم العلمانيّة، فقط ضمن إطار تطبيق الشّريعة الإسلاميّة التي تتناول الحياة البشريّة بجزئيّاتها وتفاصيلها، فالدّولة الحقيقيّة في نظر بعض المسلمين يجب أن تكون “دولة القرآن” بجناحيها الدّينيّ والمدنيّ (راجع، “الإسلام وموقفه من علمنة الدّولة اللّبنانيّة”، المسرّة (مجلّة)، 579 (1972)، ص. 722-726).
غير أنّ بعض المسلمين وهم قلّة، لا يعتبرون العلمانيّة نظاما مناوئا للدّين بل موقفا فلسفيّا ذهنيّا بالنّسبة إلى مشكلات الضّمير (Cf. M. Bozdemir, Islam…, p. 77) . وعليه، إنّ بعض الدّول ذات الأغلبيّة الإسلاميّة، تبنّت النّظام العلمانيّ، منذ أمد طويل، نظير تركيّا وتونس وألبانيا.
خاتمة:
لم نقصد في تناولنا هذا النّوع من البحث، التّرويج للنظّريّة العلمانيّة أو لأيّ فكر أو نظام سياسيّ آخر؛ بل وددنا التّوضيح والتّأكيد، أنْ ليست العلمانيّة في المطلق ضدّ الدّين والتّديّن، بل ثمّة علمانيّة إيجابيّة، صحيحة، سليمة، تميّز بين الدّين والدّولة حتّى حدود الفصل، من دون أن تناوئ الدّين أو ترفضه أو تلغيه.
آن الأوان، في نظرنا، كي نخرج من دوّامة بعض الهواجس الوهميّة، والأفكار المغلوطة، والمعلومات غير الدّقيقة، والأحكام المسبقة التي قد نتناقلها أحياناً كالعدوى المميتة، من دون أدنى تحليل أو تنقيب أو تقويم. فلنستعرض كلّ شيء ولننتقِ الأفضل. ولنضع كلّ النّظريات على طاولة النّقاش الثّقافيّ والحوار الحضاريّ، كي نتقاسم خبز المعرفة ونتشارك غذاء العلم، لأنّنا جائعون حتّى إلى فَضَلات قوت الفكر، وكِسْرات خبز الحقّ… علّ ذلك يكون خير سبيل للوصول إلى قمّة الحقيقة الموضوعيّة.
* * *
الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة والل
اهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: “شِعْر وْصَلا”، صدر عام 2001، و”أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة”، صدر عام 2007.