الفاتيكان، الاثنين 05 أكتوبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي التأمل الذي ألقاه البابا بندكتس السادس عشر في اللقاء الأول في الجمعية العامة الثانية لسينودس الأساقفة من أجل افريقيا.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
لقد افتتحنا للتو اللقاء السينودسي مستدعين الروح القدس، وواعين بأننا غير قادرين على إتمام ما يجب القيام به في سبيل الكنيسة والعالم: فقط بقوة الروح القدس، يمكننا أن نقوم بما هو مستقيم. سنبدأ عملنا كل يوم باستدعاء الروح القدس بتلاوة صلاة الساعة الثالثة «Nunc sancte nobis Spiritus» “تعال أيها الروح القدس”. ولذلك أود الآن ان أتأمل معكم بهذا النشيد، الذي سيفتتح عملنا اليومي، أكان الآن في السينودس، أم في حياتنا اليومية.
“تعال أيها الروح القدس”. نحن نصلي لكي لا تكون العنصرة حدثاً من الماضي، حدث بداية الكنيسة، بل لتكون حدثاً آنياً، الآن: “تعال أيها الروح القدس”. نصلي لكيما يحل الرب روحه ويجدد كنيسته والعالم. نتذكر بأن الرسل، بعد الصعود لم يعملوا على تنظيم كنيسة المستقبل – الأمر الذي كان طبيعياً. بل إنهم انتظروا عمل الله، انتظروا الروح القدس. لقد فهموا بأنه لا يمكن خلق الكنيسة، التي ليست منتج تنظيم بشري: على الكنيسة أن تولد من الروح القدس. وكما ولد الرب نفسه بعمل الروح القدس، هكذا على الكنيسة أيضاً أن تولد من الروح القدس. فقط بواسطة عمل الله الخالق هذا، يمكننا أن ندخل لنصبح جزءاً من عمل الله ونتعاون معه. وبهذا المعنى، فإن عمله السينودسي كله يكمن في التعاون مع الروح القدس، بقوة الله التي تعطى لنا. وعلينا دائماً أن نصلي ليتم هذا العمل الإلهي، الذي من خلاله يمكننا أن نسهم في ولادة ونمو الكنيسة.
القسم الثاني من هذا النشيد – “«Os, lingua, mens, sensus, vigor, / Confessionem personent: / Flammescat igne caritas, / accendat ardor proximos»” ” بالإرادة والفعل، بالقلب واللسان، وبكل قوانا نشدوك الحمد، وليضىء النور على جنسنا المائت، ليصل لهيبك الحي للآخرين” – هو قلب هذه الصلاة. نسأل الله ثلاث مواهب، مواهب العنصرة الأساسية، مواهب الروح القدس: “ confessio, caritas, proximos” – “الاعتراف (الكلمة)، المحبة، القريب”.
Confessio: “هناك لسان النار الذي هو “معقول”، وينطق بالكلمة الحق، ويجعلنا نفكر بتخطي بابل في عيد العنصرة. من الضروري تخطي الالتباس الناتج عن أنانية وغطرسة الإنسان – والذي يؤدي الى عدم فهم بعضنا البعض – بقوة الروح التي توحد، محافظة على الاختلاف، وتعطي الوحدة في التعددية: كل واحد يفهم الآخر، حتى وسط اختلاف اللغات.
Confessio: الكلمة، لسان النار الذي يمنحنا إياه الرب، الكلمة التي توحدنا جميعاً، مدينة الله، التي تحوي غنى مختلف الثقافات. Flammescat igne caritas (المحبة). هذا الاعتراف ليس نظرية بل حياة، محبة. إن قلب الكنيسة المقدسة هو المحبة، الله محبة ويتواصل معنا بالمحبة. وفي الختام، ” prossimo القريب”. الكنيسة ليست جماعة منغلقة على ذاتها، تعيش لذاتها كسائر الفرق الموجودة في العالم، بل إنها تتميز بشمولية المحبة، وبالمسؤولية تجاه القريب.
فلنعاين كل واحدة من هذه المواهب. Confessio: في لغة الكتاب المقدس والكنيسة الأولى، تحمل هذه الكلمة معنيين أساسيين، يبدو المعنيان لأول وهلة متضادين، ولكن في الواقع يشكلان واقعاً واحداً. Confessio قبل كل شيء هي الاعتراف بالخطايا: الاعتراف بخطيئتنا والاعتراف بأننا لسنا كاملين أمام الله، نحن خطأة ولسنا في علاقة مستقيمة معه. هذه هي النقطة الأولى: أن نعرف ذواتنا على ضوء الله. فقط أمام هذا النور يمكننا أن نعرف ذواتنا، يمكننا أن نفهم مدى الشر في داخلنا، وأن نرى ما يجدر تجديده وتحويله. فقط على ضوء الله نسنطيع أن نفهم بعضنا البعض، وأن نرى الواقع كما هو.
يبدو لي أنه لا بد من أن نأخذ كل ذلك بعين الاعتبار، في تحليلنا للمصالحة، والعدالة والسلام. التحاليل مهمة، ومن المهم أيضاً أن نعي واقع هذا العالم. ولكن هذه التحاليل الأفقية، التي تقام بدقة ومهارة، ليست كافية. فهي لا تشير الى المشاكل الحقيقية لأنها لا تشير إليها على ضوء الله. إذا كنا لا نرى بأن سر الله هو في الأساس، ستسوء الأمور في العالم، لأن العلاقة مع الله غير مستقيمة. وإذا كانت العلاقة الأولى، الأصلية، غير صحيحة، فلا تصلح كل العلاقات الأخرى – على الرغم مما فيها من الخير. ولذلك فإن تحاليلنا للعالم تبقى غير كافية إذا كنا لا ننظر الى العالم على ضوء الله، وإذا لم نكتشف بأنه في أصل الظلم والفساد، هناك قلب غير مستقيم، هناك انغلاق على الله، وبالتالي تزييف للعلاقة الأصلية التي هي مبدأ كل العلاقات الأخرى.
Confessio: أن نفهم، على ضوء الله، واقع العالم، أولوية الله وأخيراً كل الكائن البشري والواقع البشري، في توقنا للعلاقة مع الله. وإذا لم تكن هذه العلاقة مستقيمة، فلن نصل الى ما يريده الله منا، ولن ندخل في حقيقته، ولن يمكن تصحيح كل ما تبقّى، لأن الرذائل التي تدمر الشبكة الاجتماعية والسلام في العالم، ستولد من جديد.
Confessio: أن نرى الواقع على ضوء الله، وأن نفهم بأن واقعنا مرتبط بعلاقتنا مع خالقنا وفادينا، لنمضي نحو الحقيقة، الحقيقة التي تخلص. في تعليقه على الفصل الثالث من إنجيل يوحنا، يشرح القديس أغسطينوس الاعتراف المسيحي بأنه “العمل بالحقيقة، السير نحو النور”. فقط من خلال رؤية ذنوبنا على ضوء الله، ومن خلال الوعي لضعف علاقتنا به، نسير على ضوء الحقيقة. ووحدها الحقيقة تخلص. فلنعمل بحسب الحقيقة: الاعتراف
أمام نور الله وفيه، هو العمل بالحقيقة. هذا هو المعنى الأول لكلمة confessio، الاعتراف بالخطايا، الاعتراف بالذنب الناتج عن ضعف علاقتنا مع الله. المعنى الثاني لكلمة هو الشكر لله، تمجيد الله، الشهادة لله. يمكننا أن نفهم حقيقة وجودنا لأن هناك الجواب الإلهي. الله لم يتركنا وحدنا لخطايانا؛ حتى عندما تتعرقل علاقتنا معه، فإنه لا ينسحب بل يمسك بيدنا. ولذلك فإن confessio تعني الشهادة لصلاح الله، لإنها التبشير. وبالتالي يمكننا القول بأن البعد الثاني لكلمة confessio هو التبشير. نرى ذلك في يوم العنصرة في كلمات القديس بطرس الذي، من جهة يتهم خطيئة البشر – لقد قتلتم القدوس والصديق – ، ولكن في الوقت عينه يقول: هذا القدوس قام وهو يحبكم، ويغمركم ويدعوكم لتكونوا خاصته في التوبة والعماد، وفي شركة جسده. في نور الله، يصبح الاعتراف إعلاناً لله، تبشيراً وتجديداً للعالم.
ولكن كلمة confessio لها أيضاً توجه آخر. في الفصل العاشر من الرسالة الى الرومانيين، يعلق بولس على هذه الكلمة في الفصل 30 من تثنية الاشتراع. في هذا النص يبدو أن اليهود، بعد دخولهم في العهد مع الله، في الأرض المقدسة، خافوا ولم يستطيعوا الإجابة على الله كما يجب. فقال لهم الرب: لا تخافوا، الله ليس بعيداً. للوصول الى الله، ليس من الضروري أن نقطع محيطات مجهولة، أو أن نقوم برحلات فضائية في السماء، أو بأشياء معقدة أو مستحيلة. الله ليس بعيداً، إنه ليس من الناحية الأخرى من المحيط، أو في مساحات الكون الشاسعة. الله قريب. إنه في قلبك وعلى شفتيك، بكلمة التوراة التي تدخل قلبك وتعلَن على لسانك. الله فيك ومعك، إنه قريب. القديس بولس، في تعليقه، يستعمل كلمة اعتراف وإيمان بدلاً من كلمة التوراة. يقول: الله قريب بالفعل، لسنا بحاجة لرحلات معقدة للوصل إليه، ولا الى مغامرات روحية أو مادية. الله قريب بالإيمان، إنه في قلبك، وبالاعتراف هو على شفتيك. إنه فيك ومعك. بحضوره، يعطينا يسوع المسيح كلمة الحياة. وهكذا، بالإيمان يدخل في قلبنا. إنه يسكن في قلبنا، وفي الاعتراف نحمل واقع الرب للعالم، لعالمنا. وهذا عنصر بالغ الأهمية: الله قريب. إن مبادرات العلم والتكنولوجيا تتطلب الكثير من الاستثمارات: المغامرات الروحية والمادية مكلفة وصعبة.
ولكن الله يعطي ذاته بمجانية. ما هو بالغ الأهمية في الحياة – الله، المحبة، الحقيقة – هو مجاني. الله يعطي ذاته في قلبنا. لا بد لنا من أن نتأمل دوماً بمجانية الله: ليست هناك حاجة للعطايا المادية الكبيرة، ولا الفكرية، لنكون قريبين من الله. الله يعطي ذاته بمجانية بمحبته. إن في داخلي، في قلبي وعلى شفتاي. هذه هي شجاعة حياتنا وفرحها. إنها الشجاعة الموجودة هنا في السينودس، لأن الله ليس بعيداً: إنه معنا في كلمة الإيمان. واعتقد بأن هذه الثنائية مهمة أيضاً: الكلمة في القلب وعلى الشفاه. هذا العمق في الإيمان الشخصي، الذي يربطني حميمياً بالله، لا بد من إعلانه: الإيمان والاعتراف، الشراكة مع الله (في الداخل)، وشهادة الإيمان على الشفاه ومنها الى العالم. ثم إن النشيد الذي نتحدث عنه، يشير أيضاً الى الأماكن التي يتواجد فيها الاعتراف: “«oas, lingua, mens, sensus, vigor“. كل قدراتنا على التفكير، النطق، الشعور والحركة، كلها تشير الى كلمة الله. على وجودنا، بكل أبعاده، أن يكون ممتلئاً من هذه الكلمة، التي تصبح حسية في العالم، ومن خلال وجودنا، تظهر في العالم: كلمة الروح القدس.
أتطرق باختصار الى الموهبتين الأخرتين. المحبة: من المهم أن لا تكون المسيحية مجموعة من الأفكار، فلسفة أو لاهوت، بل طريقة عيش، المسيحية هي محبة. هكذا فقط نصبح مسيحيين: إذا ما تحول الإيمان الى محبة، إذا كان محبة. يمكننا أن نقول بأن “lógos e caritas ” “الكلمة والمحبة” يتماشيان معاً. إن إلهنا هو من جهة: الكلمة، العقل الأزلي. ولكن هذا العقل هو أيضاً محبة، ولا عملية رياضيات باردة تبني الكون. ليس نصف إله. هذا العقل الأزلي هو نار، هو محبة. من الأهمية أن تتحق في داخلنا الوحدة بين العقل والمحبة، الإيمان والمحبة. وهكذا من خلال تحولنا في المحبة، نتألّه. في تطور العالم هناك مسيرة صعوداً، بدءاً من أولى الخلائق ووصولاً الى الإنسان. ولكن هذا السلم لم ينته بعد. على الإنسان أن يتألّه ليبلغ ملأه. الاتحاد بين الخالق والخليقة: هذا هو النمو الحقيقي، بلوغ هذا الانفتاح بنعمة الله. كل كياننا يتحول في المحبة. وفي تفكيرنا بهذا النمو نفكر بالغاية، حيث يريد الله ان يصل معنا.
في الختام، القريب. المحبة ليست شيئاً شخصياً فردياً، بل إنها شاملة وحسية. اليوم في القداس قرأنا إنجيل السامري الصالح، حيث نرى ازدواجية واقع المحبة المسيحية، الشاملة والحسية. هذا السامري يلتقي بهودي، أي بشخص خارج عن حدود القبيلة والدين. ولكن المحبة شاملة وبالتالي فقد أصبح اليهودي الغريب، قريب السامري. إن الشمولية تفتح الحدود التي تحاصر العالم وتخلق الاختلاف والصراعات. وفي الوقت عينه، ليس العمل على تعزيز الشمولية فلسفة، بل إنه عمل حسي. علينا أن نميل الى وحدة الشمولية، وان نفتح بالفعل حدود القبائل والأعراق والديانات على شمولية محبة الله. فلنصلي الى الرب ليمنحنا كل ذلك، بقوة الروح القدس. إن هذا النشيد هو تمجيد لله الثالوث والأوحد، وهو صلاة معرفة وإيمان. وهكذا تعود النهاية الى البداية. نصلي لكيما نقدر أن نعرف، وبمعرفتنا نؤمن، وبإيماننا نحب. نسأل الرب أن يمنحنا روحه القدوس، ليضرم عنصرة جديدة، ويساعدنا لنكون خدامه في هذا العالم.
آمين
نقله الى العربية طوني عساف – وكالة زينيت العالمية (zenit.org)