زوق مصبح، الاثنين 12 أكتوبر 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي كلمة قدس الأباتي سمعان أبو عبدو، الرئيس العام للرهبانية المارونية المريمية، إبان افتتاح السنة الجامعية 2009 – 2010 في جامعة اللويزة – زوق مصبح، نهار الجمعة 9 أكتوبر 2009.

* * *

يسرُّني أن أفتتحَ وإيّاكم هذه السنةَ الجامعيّةَ الجديدةَ 2009-2010، سائلاً الله أن تكونَ سنة ً مثمرةً مليئةً بالتألُّقِ والنجاحِ، مُذكِّراً الجميعَ بأنَّ كلَّ سنةٍ نُمضيها هُنا هي وقتٌ مُهِمٌّ وأساسيٌّ يدخلُ في بناء شخصيَّتِنا وحياتِنا ومستقبلِنا.

إنّ لقاءَنا في هذا اليوم يتيح لي الفرصةَ السعيدةَ للتعبير عن كلِّ تقديري للدور الاساسيِّ الذي تؤديهِ جامعة سيدة اللويزة في تنميةِ القيمِ الانسانيةِ والروحيةِ والوطنية والعلمية لدى كل طالب، كل ذلك بفضل القيمين عليها الذين يسهرون ويُضَحّون ويعملونَ بشجاعةٍ، لبناء حاضرِ ومستقبلِ هذه الجامعة. ومعكم أودُّ أن أشكرَ رئيس الجامِعة والآباءَ المدراءَ والمرشدينَ ونوّابَ الرئيسِ والعمداءَ والاساتذةَ والاداريّين والآباء والعمال.

                                أحبّائي!

نعيشُ حاليّاً في عالمٍ مُتغيّرٍ أو بالحريِّ سريعِ التغييرِ حيثُ نشعرُ في أكثرِ الأحيانِ بأنّنا تائهونَ، متروكون، ضُعفاءُ، ونحتاجُ إلى سندٍ، إلى نقطةِ ارتِكازٍ منها ننطلِقُ بخُطىً ثابتةٍ ورؤيةٍ واضحة. نحتاجُ إلى منْ نستمدُّ منهُ القوّةَ والأملَ وحُلُمَ المستقبل...

            وعليهِ، دعوني أقدّمُ إليكم شخصاً مهمّاً كانت لي خبرةٌ عميقةٌ مَعُه في حياتي الرّهبانيّةِ والإنسانيّةِ، وفي الخدمةِ التي كلِّفتُ بها كرئيسٍ عامٍّ للرُّهبانيّة المارونيّةِ المريميّةِ. إنّه يسوعُ  نورُ العالمِ الّذي يضيءُ القلوبَ والعقولَ، هو الذي قال: "من يتبَعني لا يمشي في الظَّلامِ بل يكونُ لهُ نورُ الحياة." (يوحنّا 8: 12)

      هذا الشخصُ الإلهُ الإنسانُ هو الحقيقةُ الجديدةُ التي نلتقيها وهي مُقَدَّمَةٌ لنا  في عالمِ اليوم، وهي باقيةٌ معنا بتجدُّدٍ دائمٍ حتّى انقضاءِ الدهر، وهو القائلُ أيضا عن نفسه:"أنا هو الطريقُ والحقُّ والحياةُ"... (يوحنّا 14: 6)

أجلْ ، من يلتقِه يُصبِحُ قادراً على فهمِ حياتِهِ في ضوءِ نورهِ، فيقدِرَ أن يجدِّدَ ذاته ومحيطه، لأنّه يعيشُ في الحقيقةِ ويستمدُّ النورَ مِن الذي هو "نور العالم".

لا شكَّ في أنّ العلمَ والمعرفةَ والبحثَ والذكاءَ تُساعدُنا على التقدُّمِ نحو هذا النورِ، لكن لا بُدَّ من حِكمَةِ القلبِ لفهمِ حقيقةِ هذا النورِ والتعرُّفِ إليهِ.

إنّهُ نورٌ مختلفٌ عن كلِّ الأضواء التي تَبهُرُنا في عالمِ اليوم المأخوذِ بالمظاهرِ الخدّاعةِ الزائلة، هذا العالم المشدودِ إلى سطوَةِ المادَّةِ وشهوةِ السُّلطةِ، المحكومِ بالإغراءاتِ، المطبوعِ بالعَجَلَةِ والتوتُّرِ فترانا نريدُ أن نحصُلَ على  كلِّ شيء الآن وبسُرعة... في غَمْرَةِ هذهِ الدّوّامةِ الساحقةِ تبدو الجامعةُ مدعوَّةً مع طلاّبِها إلى الذهابِ بعيداً في الأعماق لإلقاءِ الشِباكِ، فصيدُ الأعماقِِ وفيرٌ وثمينٌ فيما صيدُ السّطوحِ قليلٌ ومن دونِ فائدةٍ.

 الجامعةُ مدعوَّةٌ اليومَ إلى السَّيرِ نحو الذي يُنيرُ العلومَ والاختراعاتِ والتكنولوجيا لتتمكّن من لقاء الذي "به كان كلّ شيء ومن دونه لم يكن شيئٌ" (يوحنّا1: 3) يقول اللهُ في العهد القديم : "أنا هو الذي هو" أي أنّه الحقيقةُ الشاملةُ التي، لكي نبلُغَهَا علينا أن نبدأ حملةَ تفتيشٍ عنها. لأنَّ من لم يلتقِ بعدُ هذا "الذي هو"، لم يعرف النورَ ولم يتعرَّف إلى ذاتِهِ ولا إلى الحقيقةِ، وهو بعيدٌ عن الحِكمةِ، ولا يجد المعنى الجوهري لوجودهِ وحياتِهِ.

                  أحبّائي!

نريدُ أن تكونَ هذه الجامعةُ المكانَ الذي يَضُجُّ  بالسؤالِ عن اللهِ، والدارَ الواسعةَ التي تتداولون فيها يوميّاً بالحقيقةِ المُطلَقة.

نريدُ أن تكون هذه الجامعةُ نوراً للعالم، لَكُم وللوطن...فوَحدَهُ هذا النورُ الحقيقيُّ يُنيرُ طريقَكم ويوَحِّدُ سيرتَكم. وهنا دعوني أسألُكم: هل النورُ الحقيقيُّ المُستَمَدُّ من يسوع نورِ الحياة، موجودٌ هنا؟ هل نلتقيهِ في ربوعِ جامعتِنا؟

أحبائي!        

لا تستطيعُ الجامعةُ أن تستمرَّ متعلِّقةً بالظاهرِ والمَظهَرِ والمُبهِرِ، بل هي مدعوَّةٌ إلى مُساءَلةِ الإنسانِ حول الوجودِ والمُطلقِِ والمعنى الحقيقيّ للحياة...

حريٌ بنا يا شبيبَتَنا ويا مسؤولينا أن نُفَتِّشِ في هذهِ الجامعةِ عمّا يتخطّى الواقعَ والحياةَ العاديَّةَ. حريٌ بنا أن نسبِرَ المُطلقَ... أن ننطَلِقَ نحو الأعماق بعيداً عن السطوحِ...

لَيتَ أحَدُكم يُفَسِّر لي هذا الجموحَ الشّبابيَّ نحو السَّهَرِ والسُّكرِ والسُّرعةِ في قيادة السيّارات...

كثيرون من شبابنا يموتون في رَيعان شبابِهم وهم تائهونَ وفي حالاتٍ مشبوهةٍ. إنّ حوادثَ السير المميتةَ فاقتْ خمسةَ أضعافٍ نسبَتِها في فرنسا. هؤلاءِ أولادُنا! عمَّ تُراهم يفتّشون؟ ماذا يُريدونَ من هذه الحياةِ؟ الحرية؟ إنّ عيشَ الحرِّيَّةِ مرتبطٌ بالقرارِ الشخصيِّ الملتزمِ والمسؤول.

أعرِفُ تماماً أنَّ كثيرينَ من بينِكم يتوقونَ إلى عيشِ المُطلقِ وإلى السؤالِ الدائِمِ عنهُ بكونِهِ يُعطي المعنى الحقيقيَّ للوجود وللعالمِ وللحياة... ولا شكَّ في أنَّ الإنسانَ بطبيعَتِهِ يُفتِّشُ دوماً عن الحقيقةِ...أمّا رفضُ الحقيقة في هذا الزمنِ فقد تحوَّل مَرَضاً مُميتاً... فهل يُعقَلُ أن يرفُضَ الإنسانُ النورَ الذي هو يسوعُ المسيحُ؟

مرَّةً جديدةً أقولُ لكُم إنَّ الجامعةَ مدعوَّةٌ اليومَ بسائِرِ أعضائها إلى التفتيشِ عن الحقيقةِ وإلاّ فقدتْ هُوِّيَتَها... وإنَّ هذهِ الجامعةَ مدعوَّةٌ لتكوين حلقاتٍ من مفكِّرينَ وباحثينَ وطلاّبٍ وأساتذةٍ يطرحونَ بجرأةٍ وشجاعَةٍ موضوعَ اللهِ والحقيقةِ بحيثُ يُحفِّزونَ شوقَ الإنسانِ إلى البحثِ عن المُطْلَقِ أيْ عن الله...إنسانٌ من دون يسوع المسيح هو إنسانٌ تائهٌ، مُرتَهَنٌ لعالمِ المحدوديَّة.

أعزّائي!

أنتم مُستقبَلُ الجامعةِ والوطنِ والكنيسةِ وأهلِكم، وكلُّ ذلكَ يُحتِّم علينا أن نكون مُوحَّدين في هذا الوطنِ الصغيرِ والذي يعاني الكثيرَ من التشتُّتِ والشَّحن الطائفيِّ والمذهبيِّ والسياسيِّ والفئويّ. ماذا يفيدُنا هذا الواقِعُ؟ القليل من المسؤولين مهتمٌ بالوضعِ المعيشيِّ والاقتصاديِّ والعائليِّ. إنّ للمواطِنِ واجباتٍ وحقوقاً، وكلُّ مواطنٍ يدفعُ الضريبةَ للدولة، على الدولةِ أن تقومَ بواجبِها تجَاهَهُ ، وإذا كان التقصير من قبلِها، فعليه بالمطالبة من دون تردد ولا خوف. فأين نحن من القادة والسياسيّونَ ورجال الدولة الفاعلين، الذين يهمّهم خير المواطن؟

 لقد عِشنا الحرب واختبرناه ثلاثين سنة، بما فيها من قتلٍ وتهجيرٍ ودمارٍ وإذلال، وفي النهاية لا أحد رابح؟ معكم أطرح السؤال: لماذا هذا الجنوح الجنونيُّ نحو العُنف ورفضِ الآخر؟ إنَّ من أسوأِ الاشياءِ ما بعدَ الحربِ هو ألاّ نتعلمَ منها دروساً وعبراً لمستقبلنا.

معكم أيها الجامعيون، نودُّ التغييرَ، في عيونكم نرى الاملَ في المستقبل، نحن كلُّنا ثقةٌ بتقدُّمكم الروحيِّ والخُلُقيِّ والعلميِّ والثقافيِّ والوطنيِّ. أدعوكم الى تقبُّلِ الآخرِ وإلى الصداقة والتعاون والاحترام المتبادل، وأن يكونَ اللهُ نوراً لقلوبكم.

   تلكَ هي أُمنيتي، أضعُها وإيّاكم تحتَ نَظَرِ أمِّنا مريمَ العذراءِ سيِّدة اللويزة و ملِكةِ هذه الجامعة التي نطلبُ إليها أن تُهديَكم في بدايةِ هذهِ السَّنةِ الجامعيَّةِ إلى نورِ ابنِها يسوعَ المسيحِ ملكِ الكونِ الباقي معنا إلى انقضاءِ الدهورِ. آمين.