بقلم جميلة ضاهر موسى

القبيات، الخميس 29 أكتوبر 2009 (Zenit.org). – كم مررنا بالطرقات ولم نرَهُم، لأنّ نظرنا لم يَعْتد تخطّي الأنف!

كم تفرّجنا عليهم بدل أن نُعَزّيهم، لأنّهم صلّوا لأجل من ارتحل عنهم للأبد وأغفلوا الندب ولطم الخدود!

كم سخرنا من طيبتهم وتواضعهم لأنّهم عملوا بضمير حيّ وفرح ترجمته بسمة عذبة نابعة من قلبٍ متوجّع بسبب الظلم والإستغلال والتهميش أحياناً!

وَكم نَعَتْناهم بالسذّج والرجعيّين لأنّهم رَحَموا وأحبّوا بتواضع، وسَعوا إلى نثر ورود السلام، في القلب والعالم. وكم فرِحْنا بكذبنا عليهم والإساءة إليهم، كاشفين "سترهم" المتواضع كي نستر به عرينا!

وال"كم وكم" وجدت مرتعاً لها في حياتنا فاستساغت العيش مع جهلنا، وقلّة إيماننا بوجود ملكوت الله داخلنا، فأخذتنا على غفلةٍ منّا ورمت بنا في شباكها.

ألا تعتقدون معي أنّنا نعيّد اليوم هؤلاء القوم؟ كلّ الذين لم ننتبه لقداستهم بيننا؟ أليسوا هم هؤلاء القدّيسون الذين لا نعرف أسماءهم، إنّما جاورناهم وسمعناهم وعايشنا بعضهم، دون أن ندرك أهمّية تعاليمهم اليوميّة لنا؟ أقصد عيش البرارة بإيمان وحبّ، ورجاء وفرح وتواضع؟

هم أدركوا  الحقّ وأحبّوه "فتزوّجوه" وسكن معهم. هم آمنوا بما قاله "المعلّم"، يسوع، "سَتبْكون، أمّا هم سيفرحون، ولكن حزنكم يصير فرَحاً"(يو:16:20). هم أيقنوا أنّ الحبّ لا يموت أبداً، وإلاّ، لماذا خُلِقْنا؟

هم عرفوا الجواب: خُلِقوا ليكونوا سعداء. نعم سُعداء، فساروا مشوار الحياة مدركين تماماً مفهوم السعادة الحقيقي، وأين يكمن سرّه (العيش للأبد بجوار من نحبّ)، فجاهدوا "الجهاد الحسن"حباً بالمسيح وإيماناً بمن أحبّوه.

"لماذا خُلِقْنا" إذن، سؤال ينتظر إجابتنا، إجابة تحدّد مصيرنا الحقيقي، لا في هذه الدنيا فحسب، بل في العالم الأبديّ أيضاً. ربّما نحن بحاجة إلى إصبع توما كي نؤمن بأنّ الحبّ لا يموت أبداً!

أنظر من حولك الغير ملتزمين مسيحياً تراهم مقتنعين بأنّ الإنسان خُلِق بالحبّ، وللحبّ سيحيا، لا لينتهي إلى تراب ويزول كالعشب بعد حين، بل هناك ما هو أسمى وأثمن بكثير، يخرجه من إناء الجسد الفاني، ويحمله إلى فوق، حيث لا سوس ولا عفن.

ألا توافقونني أننا جميعنا نرغب في السعادة والعيش للأبد؟ لكن، من منّا يتجرّا ويطلب بصراحة وإيمان وإدراك، من الله تعالى أن يحقّق له ذلك؟ ربّما لأنّنا نخاف مواجهة الحقيقة فلا نفعل: هل سيطلب منّا "بيع كلّ ما نملك والتصدّق به على الفقراء"؟، مَثَل ذاك الشاب الغنيّ الذي لم يدرك ما أراده منه يسوع حقاً، بسبب فقدانه "البصيرة"، إذ كان يرى سعادته في كلّ ما يملك من مال ومقتنات ومركز مرموق ... فمضى حزيناً!

بكلّ بساطة، طبعنا البشريّ يحبّ الكسب السريع في كلّ شيء حتّى في الرغبات التي نظنّها تجلب لنا السعادة، وإن كانت عابرة وتهدّد سلامنا، كالغنى الذي يحوّل تفكيرنا إلى الإهتمام باقتناء ما لم نحصل عليه بعدُ؛ والسلطة التي تُغرِق طمأنينتنا في التخوّف من قدرة من هو أقوى منا؛ وجمال الجسد الذي تسلبه منّا السنين يوماً بعد يوم ونحن لا نقوى على الإقرار بذلك... نعم، إنّ هذا الطبع يتغلّب على الإرادة في الحصول على الرغبة الحقيقية، أي السعادة، إن تخاذلنا أو يئسنا، لأنّها تتطلّب منّا التحلّي بالصبر وقوّة الإيمان والرجاء؟

هلاّ تأملنا إذن في القداسة، رغبة الله من خلقنا؟ لأنّه قد أرادنا أبناء سعداء، قدّيسين. إنّما، كي نولد فيها، لا بدّ لنا أن نمرّ بالمخاض أوّلاً، بانِين رجاءنا على المسيح الحيّ، حيث نقاوتنا تتلألأ كالمرآة، إن سكنتنا، وُلدنا بوجهٍ جديدٍ قُدْسيٍّ، وجه الله، وأصبحنا به واحداً.

(موقع القبيات الإلكتروني)