بقلم الأب هاني باخوم نائب مدير اكليريكة ام الفادي بلبنان
روما، الأربعاء 7 أكتوبر 2009 (Zenit.org). – في المرة السابقة، راينا كيف عاش ادم وحواء ونسلهم ذلك الواقع، بين وعد الله بالخلاص وحياة ممتلئة بالخطيئة. بين وعد بالتحرر من مخالب الشرير وواقع يخفي هذا الوعد بل ويكذبه في كثير من الاحيان. لقد قتل قايين اخاه هابيل فعلاً، بالفعل تَبعَ نسل ادم خطيئة والديه وجسدها لحد القتل، و و تراق دماء البرىء!!
ولما هذه الدماء؟ بما تفيد؟ دم هابيل هو دم يفضح خطيئه الانسان وشره. دم هابيل هو دم يُظهر ان الانسان بعد مخالفته لله ليس بيديه الا ان يقتل اخاه الذي يُظهر له خطيئته. وهو يعتقد انه لن يرى خطيئته امامه بعد ذلك. فقتلُ قايين لهابيل هو رغبة منه كي لا يرى ذنبه من بعد ولا يرى من يفضحه. قتل قايين لهابيل يجسد الخطيئة ولا يجملها.
لكن الله صامت! صامت لانه سبق وتكلم. تكلم ووعد بخلاص. وتلك الكلمة فعالة وتعمل وان كانت لا تُرى لكنها تعمل. ينل ادم نسلاً جديدا. نسل يدعو الله. نسل يخرج منه أخنوخ (تك 5: 18ـ 24). أخنوخ الذي كان يسير مع الرب، مثل جده الاسبق قبل الخطيئة، يسير في الفردوس. أخنوخ الذي لم يرى الموت لان الرب اخذه كعلامة رجاء. رجاء للبشرية المغمورة في الخطيئة حتى يأتي يوم وترتفع الى ما كانت عليه من قبل.
نعم انغمست البشرية في الخطيئة وشر الانسان كثُرَ على الارض، ولم يعد يتصور في قلبه طوال يومه الا كل ما هو شر (تك 6: 5). هكذا يمثل الكتاب حالة الانسان: اصبح قلبه غير قادر الا على تصور الشر. اي ان الانسان قد غرق في خطيئته، غاص فيها طوال يومه. الانسان الذي خُلق ليكون شريكا للرب ومعاونا له في الفردوس. خلق على صورة الله ومثاله في المحبة. خلق بقلب يحيا بالحب. هذا القلب الآن لا يتصور الا الشر. مات القلب، لم يعد هو القلب الذي خُلق، مات الانسان ومن يحيا الان هو شبح له، ما يتنفس الان هو جثته، الانسان مات بشره.
يسمح الرب بالطوفان بل ويدفع به لكي يُظهر هذا الموت الذي كان قبل الطوفان. يأتي طوفان المياه كي يجعل هذا الموت يقف مكانه ولا يتقدم اكثر. ويجعل الانسان يرى طوفان شره الذي امات قلبه واغرقه. يسمح الله بالطوفان بل يرسله كي يجعل الانسان يرى ما فعله بنفسه وبثقته في كلام الحية. يرسل الرب الطوفان، الموت الحالي، كي يقيم الانسان من موته الابدي.
يرسل الله الطوفان ويَظهر كانه نهاية لكل شىء. ها هي الخليقة ستُغمر بالمياه. سينتهي كل حي وينتهي معه وعد الله الخلاصي. فلمن يكون الخلاص ان لم يكن للانسان، العل الله سيخلق انسانا جديدا احسن صنعاً من الاول؟ نعم سيعطي الرب انسانا جديدا، انسانا قادرا ان يحب الله بكل قلبه ونفسه وقوته، نعم سيعطي الله من نسل ادم من سيسحق رأس الحية. الوعد مازال قائما ولن يكون من خليقة جديدة بل من نفس النسل، نسل ادم: وها هو نوح ( تك 6: 9 ت) .
نوح رجل كامل وبار في بني جيله. حضّر الرب نوحا، حضّر شخصا كي يخلصه من الطوفان ويحفظ به نسل ادم ووعده. نوح والذي معنى اسمه التعزية سيكون تعزية لنسل ادم في واقعه، تعزية تحث على الرجاء وتفتح افاق حياة وسط موت محيط.
وسط طوفان المياه يأمر الرب نوح ببناء سفينة، من يدخل فيها يخلص. وتصبح المياه التي هي رمز ووسيلة لموت البشر هي التي تحمل الخلاص، فهي التي تحمل وترفع السفينة وتحفظ نوح ومن معه من الموت. تلك هي مياه طوفان الرب تدمر كل ما هو شر وتحمي ما هو كامل وبار. فالمياه اي الموت ليس لها سلطان على البار بل بالاحرى هي ترفعه وهو يسير عليها ويتسلطها.
طوفان ودمار كامل يعبر عن واقع شر سيطر وساد. واقع يُظهر غضب الاله وعقابه. ووسط الطوفان سفينة. علامة للخلاص ورحمة لمن يقبل الغفران ويحتمي بها من امواج المياه.
نعم لم يدمر الطوفان الخليقة، ولم يمحي وعد الله. الطوفان اظهر اهمية السفينة وحاجة الانسان للصعود اليها. واقع الموت اجبر من يرغب في الحياة ان يثق بالله ويحتمي بالسفينة. والرب يحافظ على وعده ويحمله للتحقق ويجعل للانسان قوساً في السماء علامة على ان الله لم ينسى عهده.
فأن راى الانسان الموت من حوله هموم وصعوبات الحياة، طوفان جديد يوشك ان يغمره ويجعله يشك في وعد الله. و بدأ يصرخ ويقول: “الهي الهي لماذا تركتني؟”. ينظر للسماء ويرى القوس فيتأكد ان الله لن ينساه وان الخلاص اتِ. وان كان في وسط الموت، وان كان في موجة الطوفان، ذلك القوس سيذكّر الله بان عليه ان يخلص الانسان ويذكّر الانسان ان الله اعد له سفينة خلاص.
لكن الانسان لا تكفيه علامة الخلاص الخارجية، الانسان اذا كان في الموت لا يستطيع ان ينظر الى السماء، لوكان قادراً ان ينظر الى السماء لما كان في الموت. الانسان في الموت يحاول ان يخلص ذاته بذاته. نعم فهذا هو الموت الحقيقي، عندما لا يثق الانسان الا في ذاته ولا يؤمن الا بقوته. لذا الانسان يحمل الخطيئة لكمالها. يحاول ان يخلص ذاته بذاته. كيف؟ ماذا سيصنع الانسان؟ وكيف سيرد الله؟ الانسان المحطم الذي يشعر بالفشل التام، الذي يرى الموت امامه وماضٍ اليم وعقيم وراءه… ماذا سيصنع الله؟ اسيترك الانسان كي يخلص نفسه بقواه؟ …للمرة القادمة.