الاحتفال في 28 ديسمبر في بازيليك القديس بطرس
روما، الثلاثاء 01 ديسمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر يوم السبت 28 نوفمبر خلال صلاة الغروب الأولى في زمن المجيء التي ترأسها في بازيليك القديس بطرس.
***
إخوتي وأخواتي الأعزاء،
من خلال الاحتفال بصلاة الغروب هذه، ندخل في زمن المجيء. في القراءة البيبلية التي تليت على مسامعنا، وأخذت من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، يدعونا الرسول بولس إلى تحضير مجيء ربنا يسوع المسيح (5، 23)، من خلال البقاء بغير لوم، وبنعمة الله. ويستخدم بولس تحديداً كلمة “المجيء” المشتقة من اللاتينية adventus. دعونا نفكر بإيجاز في معنى هذا المصطلح الذي يمكن أن يترجم كـ “حضور”، “وصول”، “مجيء”. في لغة العالم القديم، كان مصطلحاً تقنياً مستخدماً للإشارة إلى وصول موظف، أو زيارة الملك أو الامبراطور إلى إحدى المقاطعات. لكنه كان يشير أيضاً إلى مجيء الإله الذي يخرج من مكانه المستتر ليظهر بقوة، أو الذي يحتفل بحضوره في الشعائر. اعتمد المسيحيون مصطلح “المجيء” للتعبير عن علاقتهم مع يسوع المسيح: يسوع هو الملك الذي دخل إلى هذه “المقاطعة” الصغيرة المسماة “الأرض” لزيارة الجميع. في عيد مجيئه، يحث جميع المؤمنين به، والمؤمنين بحضوره في الاحتفال الليتورجي على المشاركة. كان يراد القول بمصطلح adventus، أن الله حاضر لم يبتعد عن العالم ويتركنا وحدنا. على الرغم من أننا لا نستطيع رؤيته أو لمسه كالوقائع الملموسة، إلا أنه حاضر يأتي لزيارتنا بطرق متنوعة. من هنا، يتضمن أيضاً معنى عبارة “المجيء” معنى visitation أي “الزيارة” التي تعني في هذه الحالة زيارة الله الذي يدخل إلى حياتنا ويريد التحدث إلينا. في حياتنا اليومية، نعيش جميعاً تجربة عدم تخصيص الوقت الكافي للرب ولأنفسنا، فنغرق في “الأعمال”. أليس صحيحاً أن النشاط كثيراً ما يستحوذ علينا، وأن المجتمع واهتماماته المتعددة هما اللذان يستأثران باهتمامنا؟ أليس صحيحاً أننا نكرس الكثير من الوقت للترفيه والتسلية على أنواعهما؟ أحياناً “نغرق” في هذه الأمور. إن زمن المجيء، هذا الزمن الليتورجي المهم الذي نستهله، يدعونا إلى التوقف بصمت لفهم الحضور. إنها دعوة إلى فهم أن كل حدث يومي رمز يدل على أن الله يتحدث إلينا ويهتم بكل واحد منا. كم مرة يدفعنا الله إلى إدراك أحد رموز محبته! إن تخصيص “دفتر يوميات روحي” لهذه المحبة يعتبر واجباً رائعاً وخلاصياً لحياتنا! يدعونا زمن المجيء ويشجعنا على التأمل بالرب الحاضر. ألا يجب أن تساعدنا الثقة بحضوره على رؤية العالم من منظار مختلف؟ ألا يجب أن تساعدنا على اعتبار كل وجودنا كـ “زيارة”، وكسبيل يأتي من خلاله إلينا ويتقرب منا في كل ظرف؟
الانتظار هو أحد العناصر الأساسية في زمن المجيء، الانتظار الذي يعتبر في الوقت عينه رجاءً. يحضنا زمن المجيء على فهم معنى الزمن والتاريخ كـ kairos، كفرصة مناسبة لخلاصنا. لقد أظهر يسوع هذا الواقع السري في أمثلة عديدة: في نص الخدام المدعوين إلى انتظار عودة السيد؛ في مثل العذارى اللواتي ينتظرن العريس؛ أو في مثل الزرع والحصاد. خلال الحياة، يكون الإنسان في حالة انتظار دائمة: عندما يكون طفلاً، يريد أن يكبر؛ وعندما يصبح راشداً، يميل إلى الإنجازات والنجاح؛ وعندما يطعن في السن، يتطلع إلى الراحة المستحقة. ولكن يأتي وقت يكتشف فيه أن رجاءه كان ضعيفاً، ولم يبق له ما يترجاه عدا عن المهنة أو المكانة الاجتماعية. يتصف درب البشرية بالرجاء لكن هذه الدرب تتقوى بالثقة لدى المسيحيين: المسيح حاضر في حياتنا كلها، إنه يرافقنا وسيمسح يوماً دموعنا. قريباً، سيتحقق كل شيء في ملكوت الله، ملكوت العدالة والسلام.
بيد أن هناك طرقاً مختلفة للانتظار. إن لم يمتلئ الزمان بحاضر مفعم بالمعاني، قد يصبح الانتظار لا يطاق؛ فإن انتظرنا شيئاً في الوقت الذي يكون فيه الحاضر فارغاً، ستبدو كل لحظة طويلة جداً، ويتحول الانتظار إلى عبء ثقيل لأن المستقبل غير مؤكد. بالمقابل، عندما يكتسب الزمان معنىً وندرك شيئاً قيماً ونوعياًً في كل لحظة، تضيف فرحة الانتظار قيمة على الحاضر. إخوتي وأخواتي الأعزاء، دعونا نعيش الحاضر الذي ننال فيه هبات الرب، دعونا نعيشه نحو المستقبل المفعم بالرجاء. هكذا يصبح زمن المجيء المسيحي فرصة لإيقاظ معنى الانتظار الحقيقي فينا، بالرجوع إلى جوهر إيماننا المتمثل في سر المسيح، المخلص المنتظر على مر قرون عديدة، والمولود في الفقر في بيت لحم. من خلال حلوله بيننا، أعطانا هبة محبته وخلاصه التي يستمر في منحنا إياها. في حضوره بيننا، يكلمنا بطرق مختلفة: في الكتاب المقدس، في السنة الليتورجية، في القديسين، في أحداث الحياة اليومية، في الخليقة كلها، التي يتغير مظهرها إن كان حاضراً معها أو إن كان يكدرها ضباب أصل مريب أو مستقبل غامض. بدورنا، نستطيع أن نتحدث إليه، ونقدم له أوجاعنا، ونفاد الصبر، والتساؤلات النابعة من قلوبنا. فلنكن واثقين بأنه يصغي إلينا دوماً! إن كان يسوع حاضراً، فلا مكان للوقت الفارغ الذي يفتقر إلى المعنى. إن كان حاضراً، نستطيع الاستمرار في الانتظار حتى عندما يصبح الآخرون عاجزين عن تقديم الدعم لنا، وحتى عندما يصبح الحاضر صعباً.
إخوتي الأعزاء، إن زمن المجيء هو زمن الحضور وانتظار الأبدية. لذلك تحديداً، يعتبر زمن الفرح، فرح روحي لا تقدر أي معاناة أن تمحوه. إنه الفرح بأن الله صار طفلاً. وهذا الفرح الحاضر فينا بطريقة غير منظورة يشجعنا على المضي ق
دماً بثقة. إن مريم العذراء التي أعطي لنا الطفل يسوع من خلالها هي مثال هذا الفرح الشديد ودعمه. فلتتمكن هي تلميذة ابنها الأمينة من الحصول لنا على نعمة عيش هذا الزمن الليتورجي بتنبه ونشاط في الانتظار. آمين!
ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009