روما، الخميس 03 ديسمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه البارحة البابا بندكتس السادس عشر خلال المقابلة العامة في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان.
***
إخوتي وأخواتي الأعزاء،
في أحد التعاليم السابقة، تحدثت إليكم عن برنار دي كليرفو، “الملفان العسلي” والشخصية البارزة في القرن الثاني عشر. لقد كان كاتب سيرته – صديقه ومقدره – غيوم دو سان تييري الذي سيمتحور تأملي حوله في هذا الصباح.
ولد غيوم في لييج بين سنتي 1075 و1080. ونظراً إلى تحدره من أسرة شريفة، وذكائه الحاد وحبه للدراسة، ارتاد مدارس شهيرة في زمانه منها مدرستي مسقط رأسه ورانس في فرنسا. عاشر أبيلار، الأستاذ الذي كان يطبق الفلسفة في اللاهوت بطريقة غريبة أثارت الكثير من الارتباك والمعارضة. وعبر غيوم عن تحفاظاته، طالباً من صديقه برنار اتخاذ موقف من أبيلار. استجابة لدعوة الله السرية التي لا تقاوم، وهي الدعوة إلى الحياة المكرسة، دخل غيوم إلى دير القديس نيقس البندكتي في رانس سنة 1113، وأصبح بعد سنوات رئيس دير القديس تييري في أبرشية رانس. خلال هذه الفترة، انتشرت الحاجة إلى تنقية الحياة الرهبانية وتجديدها لجعلها إنجيلية. اتبع غيوم هذا المسار في ديره خاصة، وفي الرهبانية البندكتية عامة. غير أنه لقي معارضة واسعة لمبادراته الإصلاحية. وعلى الرغم من نصيحة صديقه برنار، ترك الدير البندكتي سنة 1135، وخلع الثوب الأسود ليرتدي الأبيض مع انضمامه إلى السيسترسيين في سينيي. منذ ذلك الحين وحتى وفاته، سنة 1148، كرس ذاته للتأمل بأسرار الله، الذي كان دوماً محط رغباته، ولتأليف كتابات في الأدب الروحي، مهمة في تاريخ اللاهوت الرهباني.
تحمل أولى كتاباته عنوان “De natura et dignitate amoris” (طبيعة المحبة ووقارها). نجد فيها تعبيراً عن إحدى أفكار غيوم الأساسية، التي تصح لنا أيضاً. يقول أن الطاقة الأساسية التي تحيي النفس البشرية هي المحبة. فالطبيعة البشرية تقوم بجوهرها على المحبة. ففي الواقع أن مهمة واحدة توكل إلى كل إنسان: تعلّم المحبة بصدق وإخلاص ومجانية. فقط من خلال اتباع الله، تنجز هذه المهمة ويتمكن الإنسان من بلوغ الهدف الذي خلق من أجله. ويكتب غيوم: “يتمثل فن الفنون في فن المحبة… إن خالق الطبيعة هو الذي يولد المحبة. والمحبة هي قوة الروح التي ترشدها من خلال ثقل طبيعي نحو المكان والهدف الخاصين بها ” (طبيعة المحبة ووقارها، 1، 184، 379). يتطلب تعلم المحبة درباً طويلة وموجبة يبينها غيوم في أربع مراحل متوافقة مع أعمار الإنسان: الطفولة، الشباب، الكهولة، والشيخوخة. على هذه الدرب، يجب على الفرد أن يفرض على ذاته تقشفاً فعالاً وضبط النفس لإزالة كل الانفعالات المضطربة، ونزعات الأنانية، وتوحيد حياته في الله مصدر المحبة وغايتها وقوتها، لبلوغ ذروة الحياة الروحية التي يسميها غيوم “الحكمة”. في ختام هذه الدرب التقشفية، نختبر سكوناً عظيماً. فكل ملكات الإنسان – الذكاء، والإرادة، ومشاعر المودة – ترقد في الله، المعروف والمحبوب في المسيح.
في أعمال أخرى أيضاً، يتحدث غيوم عن هذه الدعوة المطلقة إلى محبة الله التي تشكل سر حياة ناجحة وسعيدة والتي يصفها كرغبة دائمة ومتزايدة، مستلهمة من الله عينه في قلب الإنسان. يقول في أحد التأملات أن سبب هذه المحبة هو “المحبة” أي الله. هو الذي ينسكب في قلب من يحب ويجعله قادراً على قبوله. يعطي ذاته حتى الارتواء منه لكن الرغبة في هذا الارتواء لا تغيب أبداً. إن حيوية المحبة هذه هي إنجاز الإنسان” (De contemplando Deo 6، 61، ص. 79-83). ويفاجئنا غيوم بإيلائه أهمية كبيرة للبعد العاطفي خلال حديثه عن محبة الله. أيها الأحباء، إن قلبنا مصنوع من الجسد، وعندما نحب الله، المحبة عينها، كيف لنا ألا نعبر في هذه العلاقة مع الرب عن مشاعرنا البشرية مثل الحنان والتأثر والرقة؟ فالرب بنفسه أراد من خلال تجسده أن يحبنا بقلب من جسد!
وبحسب غيوم، فهناك ميزة مهمة أخرى للمحبة: إنها تنير العقل وتسمح بالتعرف أكثر إلى الله وإلى الأشخاص والأحداث في الله. إن المعرفة المنبثقة عن الحواس والعقل تقلص المسافة بين الفاعل والمفعول به، بين “أنا” و”أنت” لكنها لا تلغيها. بالمقابل، تولد المحبة انجذاباً وشركة حتى يحدث تبدل وتشبه بين الفاعل الذي يحب والمفعول به المحبوب. من هنا يسمح تبادل المودة والانجذاب بمعرفة أعمق من المعرفة الناتجة عن العقل. هكذا تفسر عبارة غيوم الشهيرة: “Amor ipse intellectus est”، أي المحبة مبدأ المعرفة”. أيها الأحباء، دعونا نطرح على أنفسنا هذين السؤالين: أليس الأمر مشابهاً في حياتنا؟ أليس صحيحاً أننا لا نعرف حقاً إلا من نحب وما نحب؟ من دون الانجذاب، لا يعرف المرء شيئاً أو أحداً! وهذا ما يصح أولاً في معرفة الله وأسراره التي تتخطى قدرة فهم عقلنا: إننا نعرف الله عندما نحبه!
ترد اللمحة الشاملة عن فكر غيوم دي سان تييري في رسالة طويلة موجهة إلى الشارتريين في مون ديو، الذين زارهم وأراد تشجيعهم وتعزيتهم. ومنذ 1690، قام العلامة البندكتي جان مابيون بإعطاء هذه الرسالة عنواناً بليغاً هو Epistola aurea (الرسالة الذهبية). ففي الحقيقة أن التعليمات التي تتضمنها حول الحياة الروحية ثمينة لجميع الراغبين في النمو في الشركة مع الله وفي القداسة. في هذا المؤلف، يقترح غيوم درباً من ثلاث مراحل. ويقول أنه يجب الانتقال من طور الإنسان “الجسدي” إلى الإنسان “العقلاني” وصولاً إلى الإنسان “الروحي”. ما مراد مؤلفنا من استخدام هذه التعابير الثلاثة؟ في البداية يقبل الفرد رؤية الحياة
المستلهمة من الإيمان بفعل الطاعة والثقة. بعدها، ومن خلال عملية انطواء تفكيري يؤدي فيه العقل والإرادة دوراً كبيراً، يتم الترحيب بالإيمان بالمسيح بقناعة راسخة، ويجري اختبار توافق متناغم بين ما نؤمن به وما نرجوه وتطلعات النفس والعقل ومشاعر المودة. هكذا نتوصل إلى كمال الحياة الروحية عندما تكون وقائع الإيمان مصدر فرح وشركة فعلية ومرضية مع الله. لا يعيش الإنسان إلا في المحبة وللمحبة. يؤسس غيوم هذه الدرب على رؤية للإنسان مستلهمة من الآباء اليونانيين القدامى – منهم بخاصة أوريجانوس – الذين علموا بأسلوب جريء أن الإنسان مدعو إلى أن يكون كالله الذي خلقه على صورته ومثاله. إن صورة الله الموجودة في الإنسان تدفعه إلى المثال أي إلى هوية أكثر اكتمالاً بين مشيئته والمشيئة الإلهية. ولا يمكننا بلوغ هذا الكمال الذي يسميه غيوم “وحدة الروح”، من خلال المجهود الشخصي الصادق والسخي نظراً إلى ضرورة وجود عنصر آخر. إننا نبلغ هذا الكمال بعمل الروح القدس الذي يخيم في النفوس وينقي ويبدل كل ميول ورغبات المحبة الموجودة لدى الإنسان. ويرد أيضاً في الرسالة الذهبية “هناك تماثل آخر مع الله لا يدعى تشابهاً بعد الآن وإنما وحدة الروح عندما يتحد الإنسان مع الله، في روح واحدة، ليس فقط من خلال وحدة مشيئة مشابهة، وإنما من خلال عدم القدرة على إرادة شيء آخر. هكذا يستحق الإنسان أن يتحول إلى حقيقة الله لا إلى الله: يصبح الإنسان بالنعمة ما يكوّن طبيعة الله” (الرسالة الذهبية، 262-263، 223، ص. 353-355).
إخوتي وأخواتي الأعزاء، يعلمنا هذا المؤلف الذي يمكن أن نسميه “منشد المحبة” اتخاذ الخيار الأساسي في حياتنا الذي يعطي معنىً وقيمة لكافة الخيارات الأخرى: محبة الله ومحبة القريب من خلال محبته؛ هكذا فقط نجد الفرح الحقيقي، فرح النعيم الأبدي. دعونا نحذو حذو القديسين لنتعلم أن نحب بطريقة حقيقية وشاملة، ونلتزم على درب وجودنا. مع تريزيا الطفل يسوع القديسة الشابة والعلامة في الكنيسة، نقول بدورنا للرب أننا نريد العيش للمحبة. هنا أختتم بإحدى صلوات هذه القديسة: “أحبك وتعلم يا إلهي يسوع! ويحرقني لهيب روح المحبة. بمحبتي لك، أجذب الآب الذي يؤويه قلبي الضعيف من دون مفر. أيها الثالوث! كن أسير محبتي. إن العيش من المحبة هبة ذاتية لا حدود لها ومن دون مقابل… عندما نحب، لا نقوم بأي حسابات. لقد أعطيت كل شيء إلى القلب الإلهي الذي يفيض حناناً! أعيش بخفة. لم يبقَ لي شيء، وبات العيش من المحبة ثروتي الوحيدة”.
ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009