روما، الثلاثاء 8 ديسمبر 2009 (Zenit.org). – إننا وإذ نشارك هايديغر مفهومه بأن المستقبل هو ظاهرة الزمان الأساسية (راجع القسم الأول من المقالة)، لا نشاركه مفهومه للإنسان ككائن للموت، ككائن يسير نحو الموت كمصير حتمي ونهائي. الموت بالنسبة لنا هو المحطة ما قبل الأخيرة، وهناك نقطة أخيرة وأخيرية تقدم لنا وجهة لمسيرتنا، سنسعى لاستعراضها الآن.
يميز اللاهوتي اليسوعي كارل راهنر بين وجهين من وجوه المستقبل. فكلمة “مستقبل” تحمل في طياتها بشكل عام ما يحققه الإنسان. هذا المستقبل هو بكلمات راهنر: “ما نتوقعه اليوم ونحققه الغد، مطبقين مشاريع محددة ومستعملين الوسائل المناسبة التي تسمح لنا – والمسألة هي فقط مسألة وقت – أن نترجم المشاريع في وقائع” (K. Rahner, «Il concetto di futuro: considerazioni frammentarie di un teologo», in Id., Nuovi saggi, III, Roma 1969, 619-626). هذا المستقبل يسميه راهنر، “المستقبل المكنون الأرضي” (innerweltliche)، إنه واقع لم يدخل بعد في وقائع عالمنا، ولكنه سيحدث عاجلاً أم آجلاً، ولدى حدوثه سيضحي واقعًا من وقائع هذا التاريخ. إنه حدث حديث طالما هو حاضر، ولكن مع الوقت يضحي واقعًا ماضيًا يطويه الزمان ويتجاوزه، إنه مستقبل يمضي. هذا المستقبل هو إذًا مؤقت، وليس نهائيًا بشكل كامل، إنه “ما قبل النهائي”.
ولكن في إطار هذا المستقبل المكنون الأرضي، يختبر الإنسان اللقاء بحرية تتجاوز القدرية الزمنية، حرية تمكّن الإنسان أن ينفتح في صلب هذا “المستقبل المكنون الأرضي” على مستقبل مختلف، على مستقبل يتجاوز مشاريعه وحساباته، على ما هو مختلف عن بالكلية عن ذاته، على الآخر. في أفق مستقبلنا، ذلك المستقبل الذي نصنعه نحن، تظهر علامات مستقبل آخر. هذا المستقبل الذي لا نستبقه في مخططاتنا وبرامجنا، هو الجدة الحقة (novum)، وبالتالي هو المستقبل بامتياز لأنه ما يجب أن يحدث، إنه “المستقبل المطلق”. فبما أنه ليس مستقبلاً ثمرة الإبداع البشري، هو مستقبل يبقى ما وراء كل لحظات الزمان البشري، وإذ نقارن لحظات زمننا بهذا المستقبل نكتشف أنها كلها نسبية. فهذا المستقبل الذي يدخل تاريخنا هو الأخيري الحق (eschaton – novissimus)، المحور الذي يجمع كل لحظات تاريخنا حول المعنى الذي ينبثق منه جاذبًا زمننا ما وراء ذاته ومحققًا توقه الباطن.
ويقوم اللاهوتي البروتستانتي الألماني يورغن مولتمان (Jurgen Moltmann) بتمييز مماثل فيفصل بين مستقبل يسميه ” futurum”، والذي يعبر عن واقع الحدوث الذي تتضمنه كلمة ” fieri” اللاتينية. أما ما يطابق المستقبل المطلق عند راهنر فيسميه مولتمان ” ad-ventus” الذي يعني: الوصول إلى، الوصول من، أو ببساطة الآتي (من فعل ” advenio” اللاتيني الذي يعني: أتى إلى، وصل إلى). المستقبل البسيط والأرضي (futurum) هو تقدمنا الزمني، بينما الآتي (ad-ventus) هو مامن يأتي إلينا، يأتي إلى لقائنا.
المستقبل المسيحي: شخص المسيح
وإذا ما نظرنا بالعمق إلى المفهوم المسيحي للآتي (ad-ventus) لأدركنا أن الآتي ليس حدثًا بل شخصًا. يقول راهنر: “المستقبل المطلق هو الله بالذات، هو فعل مشاركة الذات الكلية الذي قام به من تلقاء ذاته”. مشاركة الذات هذه يتمها الله في يسوع المسيح، في حدث يدخل التاريخ لا كحلقة زمنية بل كحدث يلخص التاريخ ويجمع تحت رأس واحد هو المسيح كل شيء ما في السموات وما في الأرض (anakephalaiósastai tà pánta) (راجع أف 1، 10). عبر تجسد المسيح يدخل الله في تاريخنا، ولكن من خلال انحناء المسيح، تدخل البشرية في أبدية حب الله.
هذا المستقبل الآتي (ad-ventus) يقوم بين مجيئين يشكلان زمن الكنيسة، مجيء المسيح الأول في تواضع بشريتنا، ومجيئه الثاني في مجد ألوهيته. أمام هذه النظرة إلى الزمان، يتخطى مفهوم المسيحية للإنسان تعبير هايديغر (كائن-نحو-الموت) لتجعله كائن-نحو-المسيح، كائنًا للمسيح. رباط الإنسان بالزمان يمر من خلال العلاقة. في علاقتنا مع الآخر يستمد الزمان معناه، ونبدأ بقياس الزمان لا كواقع وقتي نقرأه من وجهة عقارب الساعة بل كواقع شخصاني نقرأه في وجه ونظرة الآخر. بكلمة يضحي الإنسان كائن-الانتظار.
(يتبع)