القديس فرنسيس والحوار الاسلامي – المسيحي
جل الديب، الأربعاء 09 ديسمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي مداخلة أمين الأستاذ محمد السماك التي ألقاها خلال المؤتمر الفرنسيسكاني العام في لبنان حول القديس فرنسيس والحوار الاسلامي – المسيحي
يتطلّب الحديث عن الحوار الاسلامي – المسيحي التمييز بين نوعين من الحوار .
النوع الأول هو الحوار بين المسلمين والمسيحيين العرب والشرقيين . وهو حوار ينطلق من قواعد الانتماء الى حضارة واحدة والى ثقافة واحدة والى عنصر واحد . كما انه يستند الى تاريخ واحد والى تطلعات مستقبلية واحدة .
اما النوع الثاني فهو الحوار بين المسلمين والمسيحيين من غير العرب ومن غير الشرقيين. أي الغربيين المسيحيين . وهو حوار تتحكم فيه قواعد الانتماء الى ثقافتين مختلفتين ، والى مصالح متباينة ومشاعر متباعدة . كما انه يتأثر بذاكرتين حافلتين بالصراعات ، تغذي كلاً منهما صور نمطية سلبية عن الآخر .
لقد كان لكل من النوعين من الحوار منطلقه التأسيسي . فالحوار الاسلامي – المسيحي في الدائرة العربية بدأ مع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، أي مع بداية الاسلام .
فبعد ان استتبّ الأمر في المدينة المنورة للرسول عليه السلام ، وبدأ إرساء القاعدة الأولى للدولة الاسلامية ، استقبل في بيته – حيث يقوم المسجد النبوي الشريف – وفد مسيحيي نجران – اليمن . اثناء اللقاء حان وقت صلاتهم ، فدعاهم الرسول الى ادائها في بيته . الا انهم آثروا اداء الصلاة خارج البيت . فكان لهم ما أرادوا . استؤنف اللقاء بعد الصلاة وانتهى كل على دينه وعلى معتقده . فودّعهم الرسول بمثل ما استقبلهم به من حفاوة وترحيب .
صدر بعد ذلك عن النبي صلى اللـه عليه وسلـم عهــد للنصارى بتاريخ الثالث من محرّم في السنة الثانية للهجرة ، وشهد عليه كبـار الصحابــة منهم الخلفاء الأربعة ابو بكر وعمر وعثمان وعليّ .
يقول العهد النبوي [1] : “وإن احتمى راهب او سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذاباً عنهم كل عدة ، لهم بنفسي وأعواني وأهل ملّتي وأتباعي كأنهم رعيّتي وأهل ذمّتي وأنا أعزل عنهم الأذى ..” . الى أن يقول :” ولا يغيّر أسقف من اسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المسلمين . فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عن الله وخالف رسوله . ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبّد ، جزية ولا غرامة . وأنا أحفظ ذمّتهم اينما كانوا من برّ أو بحر ، في المشرق والمغرب والشمال والجنوب وهم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كل مكروه . وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضيع المباركة . لا يلزمهم ما يزرعوه لا خراج ولا عشر” . ويختم نص العهد قائلاً : “.. ومن خالف عهد الله واعتمد بالضد من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله ” .
شكّل اللقاء مع الرسول نفسه عليه السلام وفي بيته ، وفي المدينة المنورة اول لقاء حواري اسلامي – مسيحي في التاريخ . ويؤكد ذلك اللقاء في ضوء أدبيات السلوك التي رافقته ، وفي ضوء النتائج الفورية التي انتهى اليها ، مدى الالتزام بما ورد في الآية 256 من سورة البقرة والتي تنص على انه “لا إكراه في الدين” ، والـ “لا” هنا نافية وليست ناهية . أي انها لا تعني لا تكرهوا الناس في الدين ، ولكنها تعني لا يكتمل الدين بل انه لا يكون اصلاً بالاكراه .
اما الحوار الاسلامي مع المسيحيين غير العرب ( نستثني هنا الاتصال الاسلامي المباشر مع الحبشة وكانت دولة مسيحية هاجر اليها مسلمون بتوصية من النبي تخلّصاً من ظلم مشركي مكة ) ، فقد بدأ بمبادرة من القديس فرنسيس الاسيزي في العام 1219.
كان “الأب” فرانسيس في ذلك الوقت مرافقاً لحملة الفرنجة (الحملة الصليبية) التي غزت مصر في عهد الملك الكامل ناصر الدين الأيوبي (الملقب بالعادل وشقيق السلطان صلاح الدين) . وكانت الاشتباكات المسلحة بين المسلمين والفرنجة تشهد مراحل متعددة من الكرّ والفرّ . وكان يسقط في كل مرحلة المئات من الضحايا . وفي خضم هذه الاشتباكات الدامية ، خرج من بين صفوف الفرنجة الأب فرنسيس بلباسه الكهنوتي البسيط ، متجرداً من كل سلاح ، سوى سلاح الإيمان بربه وبتعاليمه التي تدعو الى المحبة ، وحتى الى محبة الأعداء .
فوجئ المسلمون بالرجل يتقدم نحوهم . وفوجئوا به كاهناً . ثم فوجئوا به لا يحمل بيده سلاحاً ولاحتى عصا يتوكأ عليها . وكانت مفاجأتهم الكبرى انه طلب منهم ان ينقلوه الى الملك لمقابلته .
نستطيع أن نتصور انه كانت هناك شكوك في نوايا الأب فرنسيس . فكيف يعقل ان ينتقل من صفوف الأعداء المهاجمين الى خيمة الملك شخصياً ؟. ويبدو ان قائد الموقع نقل الأمر الى رؤسائه الذين نقلوه الى الملك الكامل . ومن حسن الحظ ان الملك الذي أُعجب بجرأة الأب حتى قبل أن يتعرّف الى نواياه ، وافق على استقباله وأحسَنَ وفادته .
لا تنقل الوثائق الاسلامية تفاصيل ما حدث في اللقاء ، الا انه من الثابت ان الأب فرنسيس طرح حواراً اسلامياً – مسيحياً يوقف سفك الدماء ، ويؤسس لتفاهم ديني على قاعدة الإيمان بالمسيح . اما الروايات الغربية عن هذا اللقاء ، وخاصة رواية المؤرخ إيرنول Ernol في كتابهCronache (1227-1229) الذي استشهد به سيادة الأب حليم نجيم [2] في دراسته عن القديس فرنسيس ، فليس لها سند في المراجع الاسلامية .
ثم ان هذه الرواية تنسب الى علماء المسلمين موقفاً يتناقض مع ما تقول ب
ه العقيدة الاسلامية ذاتها عن المسيحية وما تخصّ به رهبانها من التكريم والعناية والتقدير حتى في حالة الحرب . ولذلك فان تكريم الملك العادل للأب فرنسيس لم يكن تقديراً لشجاعته فقط ، كما انه لم يكن كرم أخلاق من الملك ، ولكنه كان التزاماً بما تنصّ عليه العقيدة الاسلامية في الأساس .
ولعل الأب فرنسيس فوجئ بما عرفه من العلماء المسلمين الذين استدعاهم الملك العادل لمحاورته، من أن الاسلام يؤمن بالمسيح ، وبالمعجزات الخارقة التي قام بها ، بما فيها معجزة ولادته من أم بتول طاهرة ، وحديثه اليها والى الناس بعد وقت قصير من ولادته.. ثم بإحيائه الموتى وشفاء المرضى بإذن الله .. ولعل الأب فرنسيس فوجئ أيضاً عندما عرف ان الاسلام يؤمن بالانجيل الذي يقول عنه القرآن ” فيه هدى ونور”. والذي يصف القسيسين والرهبان بأنهم ” أقرب مودّة للذين آمنوا” لتواضعهم وعدم استكبارهم. وكان الأب فرنسيس نموذجاً ومثالاً .
ويبدو واضحاً ان الأب فرنسيس وجد في هذه الأدبيات الدينية الاسلامية أساساً للحوار الاسلامي – المسيحي مما شجعه على المضي قدماّ في مبادرته .
لا نعرف بالضبط عدد جلسات الحوار التي عقدت بين الأب فرنسيس والعلماء المسلمين بحضور (أو عدم حضور) الملك العادل . كل ما نعرفه انه عندما عاد الى صفوف قوات الفرنجة ، لم تحسن هذه القوات استقباله وشككت به وبما قام به . ومما عزز من شكوكها انه كان يحمل معه مجموعة من الهدايا الملكية التي لا تزال محفوظة حتى اليوم حول ضريحه الذي أُقيم في بلدته أسيزي – وسط ايطاليا – داخل دير وكاتدرائية كبيرة تشرف عليها اليوم الرهبانية التي تحمل اسمه لتسير على نهجه ، وهي الرهبانية الفرنسيسكانية ، التي تحتفلون اليوم بالذكرى الثمانماية لتأسيسها .
تلك كانت المحطة الأولى لانطلاق قطار الحوار المسيحي – الاسلامي خارج الدائرة العربية . الا انه كان علينا ان ننتظر محطة ثانية في عام 1964 لتكتمل صورة تلك الانطلاقة . ففي ذلك العام انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أرسى قواعد لاهوتية وانسانية للحوار المسيحي مع الاسلام .
وهنا لا بد من الاشارة الى الدراسة التمهيدية التي أعدّها الأب جوزف كوك والأب لويس غارديه وقدّم لها الكاردينال ماريلا المسؤول في ذلك الوقت عن أمانة شؤون غير المسيحيين في الفاتيكان . فالدراسة التي رفعت الى المجمع ، جاء فيها :
” ان عاطفة القلب دون الروح غير كافية اذا لم يكن الذكاء يعمل في قيادتها وتوجيهها ، ولا يمكن استقبال الانسان الاخر الا اذا كنا نعرفه ، وأولى مهام المسيحي هي التعرف على شريكه المسلم ، لا كما هو بكل بساطة بل كما يريد ان يكون ، وهذه المعرفة يجب ان لا تكون معرفة عالم الاجتماع ، وهي معرفة جافة وغير حارة ، ولكن يجب ان تكون معرفة الصديق للصديق الذي يعمل على ان يكتشف في صديقه كل ما هو حسن وجيد ، وعلى ان يحبه حباً صادقاً “.
ثم كان علينا أن ننتظر محطة ثالثة في عام 1986 ليطلق البابا الراحل يوحنا بولس الثاني مبادرته العالمية للحوار ، ليس فقط الحوار المسيحي – الاسلامي ، بل الحوار المسيحي مع كل الأديان والعقائد الدينية في العالم . ولعل الحبر الأعظم أدرك من خلال زياراته لعدد من الدول الاسلامية ما سبق أن أدركه من قبل الأب فرنسيس عن الاسلام وعن أسس إيمان الاسلام بالمسيحية رسالة سماوية . فبعد زياراته لتركيا في عام 1979، وللمغرب في عام 1985 ، ثم زيارته للكنيس اليهودي المركزي في روما في 13 نيسان – ابريل 1986 ، اتجه الى أسيزي ليطلق منها مبادرته التاريخية في 27 تشرين أول – اكتوبر 1986 . ولم يجد البابا منبراً أفضل وأسمى برمزيته المسيحية من موقع ضريح القديس فرنسيس ، مستذكراً مبادرته التاريخية، ومحيياً القيم الشجاعة التي قامت عليها ، ومؤكداً على الأهداف المسيحية والانسانية النبيلة التي دعت اليها .
لقد كان الأب نجيم موضوعياً في توصيفه لهذه الأهداف في دراسته عن القديس فرنسيس حيث قال [3] :
” علينا أن نقبل المسلمين كما هم ، ليس فقط كونهم يختلفون عنا بالإيمان ، بل ايضاً كون بعض مبادئهم الدينية تتناقض ومعتقداتنا الدينية . فرنسيس لا يبالغ بمجاملة المسلمين ، ولا يتنازل عن التعبير عن معتقداته الدينية ، إرضاء لشعور المسلمين ، أو تحبّباً اليهم ، بل بصراحة يعتبرهم معارضين لنا على الأقل في الإيمان ، وإن كانوا أحبّاء لنا بالإنسانية ، والمسيح مات أيضاً لأجلهم” .
يستمد هذا التوصيف أهمية استثنائية من حيث انه يبرز البعدين الانساني والروحي لمبادرة القديس فرنسيس الحوارية . بمعنى ان الحوار عنده لم يكن من أجل الحوار ، ولا للخروج من مأزق قائم ، أو لحلّ أزمة راهنة أو لمعالجة ذيول أزمة مدبرة ، ولا حتى لاستباق الحلول لأزمة مقبلة . الحوار عنده كان تعبيراً عن احترام كرامة الانسان واحترام الاختلاف من دون التخلي عن الثوابت الإيمانية . وهو الحوار الذي نادى به البابا الراحل يوحنا بولس الثاني من أسيزي في عام 1986 وعمِلَ له حتى وفاته . ثم انه الحوار الذي نؤمن به والذي نعتقد انه القادر على نسج خيوط التعدد والتنوع الثقافي والاجتماعي والديني في لوحة جمالية واحدة .