بقلم جميلة ضاهر موسى
القبيات، الجمعة 18 ديسمبر 2009 (Zenit.org) . – وأنت تقف في بيت الله، تستمع إلى إنجيل (متّى1: 1-17)” نسب يسوع”، تشعر بالملل مِن سَرْد أسماء لا تعرفها في الغالب، وبعضها لا يعني لك شيئًا، أمّا البعض الآخر، فربّما أعاد إليك ذكرى ابراهيم، أبِ الؤمنين، ووالد اسحق” الذبيحة المفتداة بالكبش”، أو صاحب المزامير”داوود” وابنه سليمان”الحكيم”، الذي وَلَده بالزنى من أوريّا، زوجة صديقه!… وفي الختام يأتي من يكسر هذا السرد الّذي نتوق لسماع نهايته: “يوسف، رجل مريم، الّتي منها وُلِدَ يسوع وهو الّذي يُدعى المسيح”.
رتابة بغيضة وأفكار، تلفّ حياتك كلّ لحظة، بحاجاتها اليوميّة، كما في هذه السلسلة. تكرِّر نفسك في عملك، في ذهابك وإيابك، مستسلمًا لرتابة نمط عيشك دون أن تثور وتكسر حائط مستنقع ذاتك، كي تنطلق نحو الأفضل، ولا تفقد ما لديك، بل تجدِّده، كما المياه في مجراها. تراها تتدفّق بقوّةٍ متجاوزةً كلّ العقبات، والصخور، مندفعةً في مسيرتها نحو الحرّية، مشعّةً بنور الشمس، راويةً حيث تجري دون مُقابل، لا تبخل في مَلء الخوابي حتّى وإن كان أصحابها من الزّناة أو الغرباء، من الأشرار أو الفاسقين… أوَ تعتقد أنّ ذلك يؤثّر على حركتها، ويقلّل من سخائها؟ وهل ستفقد قيمتها إن فعلَتْ؟
إنّك أنت تلك المياه الجارية، أيّها الإنسان. عبَرْتَ بذُرّيّةٍ من الأجداد. منهم الصالح والمنافق، المتعلّم والجاهل، ذو المكانة الإجتماعيّة أو السياسيّة أو المادّيّة العالية والإنسان البسيط، العاديّ، المُكتفي وربّما الفقير؛ الخاطىء المتحجّر والخاطىء التائب، المتديّن المكابر والمتديّن التَّقيِّ الوَرِع… لكنّك تكمل المسيرة وأنت ممتلىء مِن نِعَم الله.
والسؤال، هل تمنعك سيرة الأجداد عن الإرتقاء؟ أو تُعيق سيرتهم مسيرتك في الحياة؟!
هل تكتفي، كما اكتفى اليهود والفرّيسيّون، بسيرة ابراهيم جدّهم، وتغنّوا بتقواه، كي يبرّروا معاصيهم، ويحلّلوا لأنفسهم ما هو محجوب عن الآخرين، غارقين في مستنقع الماضي بإهمالٍ شديد قدرات كلّ إنسان بشخصه، مهمّشين النُبْل الحقيقي للنفس الإنسانيّة؟!
سؤال آخر. أيّهما تحبّ أن تتذكّر: جَدًّا (أو جَدَّةً) لك، ارتكب معصيةً أو مَذلّة؟ أم آخر كان صالحًا وله مكانةً رفيعة، أو ثريًا، أو ربّما فنّانًا مشهورًا (فعالم اليوم يضجّ بالفنّ الفاقد الهويّة الراقية!)؟ هل هذا يغيّر في نفسك شيئًا ما؟ (بالطبع سوف يتلاعب بشخصيّتك إن كنت من الّذين لا يثقون بأنفسهم، فيعوّضون ذلك بالأقرب إليهم).
إذًا ، لا تَعْتَدّ بنفسك على حساب أجدادك وأمجادهم، كذلك لا تخجل ممّا كانوا عليه، لأنّ كُلاًّ منّا هو قيمة بحدِّ ذاته، هو جوهرة ثمينة في يد الخالق: فالذهب يبقى ذهباً وإن غمرته الوحول والإوساخ.
إنّك مِن صلب الماضي أتيت، إن تنَكَّبْتَه هوى بك أرضًا؛ لا تذب فيه كي لا تبقى حيث أنت، غارقًا في “جمادك”، فاقدًا كلَّ قيمة لك. افتح عينيك على مملكة المسيح الّتي أعلنها مذ وُلِد في التواضع من ذرّيّة داوود الملك، فسَادَ مُلْك الحبّ والإرادة الخيّرة. كن متبصّرًا واخلع ثوب الكبرياء عنك ولا تفتخر إلاّ بالإله المتأنّس، وإلاّ كنت ذلك الفرّيسيّ المُتَبجّح المُكابِر في الهيكل. كن وردةً تعطي ما تملك بسخاء، لكلّ العابرين دون أن استثناء، ولا تضنّ على أحد بعبيرها، فتجذب إليها الكثيرين لِكَرَمِها الّذي يشير إليها، دون أن تستعيد ماضي سلالتها ” العريقة”
أمَا إذا كنت تخجل بأجدادك، وقبعت تبكي ذاتك “وتندب حظّك”، فهذا أنّك ما زلت لا تؤمن بعَملِ من كسر رتابة الماضي دون “أن ينكره أو يحتقره، معلّمًا إيّاك الثقة بقدرته وبذاتك، التي هي منه، وما زلت تُنْكِر أيضًا مسيحيّتك في عهدٍ جديد، ابتدأه يسوع معك ومعي بتجسّدٍ، فميلادٍ إلهيّ، وذرّيّة بشريّة، كي يرفعنا من مغارة الإنسان العتيق إلى جبل الصعود في “اليومِ الخمسين”.