بكركي، الثلاثاء 15 ديسمبر 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، نهار الأحد 13 ديسمبر 2009. يتابع البطريرك الحديث عن سيرة حياة السيّد المسيح،على ما وردت في كتاب الكاتب الفرنسيّ الشهير فرنسوا مورياك. فيتوقف على حادثة السامريّة.
* * *
السامرية
في تلك الأيّام، نشبت المصاعب بين تلامذة يوحنّا وتلامذة يسوع. كان يوحنّا يعمّد في القرب من سالم. ولم يكن يسوع يعمّد بذاته، غير أنّه لم يكن ليمنع تلاميذه من أن يعمّدوا، وكانوا يجتذبون إليهم عالماً أكثر من يوحنّا. وكان هذا الأخير يجهد لطمأنة أخصّائه بكلام راق: "من كانت له العروسة فهو العريس" ولكن صديق العريس، الواقف هناك، ويستمع إليه، كان مسرورًا لسماعه صوت العريس. وهذه الفرحة هي فرحتي...وعليه أن ينمو وأن أتناقص...".
غير أن ابن الانسان هو من ترك له المجال حرًّا. وكان بامكان يسوع، ليعود إلى الجليل، أن يتبع الأردن، كما فعل لدى عوده مؤخّرًا، وكما يفعل جميع اليهود الذين يهمّهم أن يتحاشوا المرور في السامرة، وهي منطقة محتقرة، وملعونة، منذ أن حمل إليها مستوطنون أشوريون أصنامهم. وكان السامريّون صنعوا أبشع من هذا: لقد كانوا استقبلوا كاهنًا ثائرًا ، مطرودًا من القدس، وكان هذا قد أقام مذبحًا على جبل غاريزيم.
واذا كان قد اتبع يسوع هذه الطريق، من خلال حصاد السامرة، لقد فعل ذلك لكي يلتقي نفسًا ليست على وجه التأكيد أقلّ اتساخًا، ولا أكثر استعدادًا من سواها؛ ولهذه النفس، وليس لسواها دخل أرض العدوّ. كانت أول القادمين حرفيًا، وأول من سيلتقي، وكان عليه أن يستخدمها لكي يصل إلى الكثير سواها. وكان قد قد أنهكه التعب، فجلس على حافة بئر كان يعقوب قد حفره، قبل أن يصل بقليل إلى مدينة سوكار الصغيرة. وكان تلاميذه قد ذهبوا ليشتروا خبزًا، وكان ينتظر رجوعهم.
وكانت أول نفس وصلت... وقد حدث أنهّا كانت امرأة. وكانت لدى يسوع أسباب كثيرة لكيلا يوجّه إليها الكلام. أولاً لم يكن من اللائق أن يخاطب رجل على الطريق امرأة. ثمّ إنه يهوديّ وهي سامريّة. وأخيرًا، وهو يعرف القلوب، والأجساد أيضًا، لا يجهل من كان هذا الكائن الأخّاذ.
وكان الإنسان الإله الذي يرفع عينيه نحو هذه المخلوقة الأنثى. وهو الطهارة غير متناهية الذي لم يتفق له أن قبل الشهوة في شكلها السافل الحزين، وهو كان الشهوة المتجسّدة، ما دام هو المحبّة المتجسّدة. وكان يبتغي نفس هذه المرأة بعنف. وكان يبتغيها بشراهة لا تحتمل الانتظار ولا التأجيل، وحالاً في الوقت عينه والمكان عينه.
ان ابن الانسان كان يتطلّب تملّك هذه المخلوقة. وهي كانت عبثًا ما كانت: محظيّة، امرأة ذليلة، تمرّغت، وكان ستة رجال أمسكوها بأذرعهم، والذي هو الآن معها، وهي خاصته، وكان يتذوّق اللذّة معها لم يكن رجلها. وأخذ يسوع ما وجد، والتقط أيّا كان لكي يأتي ملكوته. ونظر إليها، وقرّر أن هذه المخلوقة ستستولي اليوم على سيخار باسمه وستؤسّس في السامرة مملكة الله. وطوال الليل، تعب لكي يعلّم التعليم المسيحيّ، أحد علماء الشريعة ولكي يفهمه ما معنى أن يموت ويولد ثانية. والمرأة ذات الستة رجال ستفهم من أول محاولة ما لم يفهمه اللاهوتيّ. وتفرّس بها يسوع: ولم يشعر بتراجع، وبانقباض احد علماء الشريعة، ولكي يفهمه ما معنى ولكي أصحاب الفضيلة أمام ابنة حبها هو مسألة كبيرة. غير أنّه لم يكن هناك رأفة، ولا تواطؤ. إنها نفس، وهي أول من جاء، وسيستخدمها. ويمرّ سهم من الشمس بقطعة من خزف بين الأقذار، وتشتعل الغابة.
إنهّا الساعة السادسة. وكان الطقس حارًّا. وسمعت المرأة من يناديها. وقد وجّه إليها هذا اليهوديّ الكلام. أجل، انّه قال لها: "أعطني لأشرب". وللحال، وهي لعوب ومستهزئة، أجابت هذا الغريب المتصبّب عرقًا:
كيف؟ تطلب مني أنا، أن تشرب، وأنا سامريّة؟
لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو هذا الذي يقول لك: أعطني لأشرب، لكنت أنت تطلبين منه، ولكان يعطيك الماء الحيّ.
وقطع المسيح المراحل بسرعة؛ وكانت هذه العبارة غير مفهومة بالنسبة إلى السامريّة. ولكنّها انسلّت كالسارق في هذه النفس المظلمة. وإن ما شعرت به، هو أنّها كانت محاطة ومحتلّة من كلّ جهة، وأن هذا المجهول الذي كانت ترى وجهه يتصبّب عرقًا، وكانت رجلاه قد اغبّرتا بفعل الغبار، كان يشغلها في الداخل، ويجتاحها وكان هذا السيل الحيّ لا يقاوم. وقد تلعثمت، وما كانت تفتأ تتهكّم وكسائر النساء، انساقت فجأة الى أسئلة أولاد.
يا رب، ليس لك ما يمكّنك من انتشال الماء والبئر عميقة. من لك أذن الماء الحيّ؟ هل أنت أكبر من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر، وشرب منها هو وأولاده وماشيته؟
لم يكن ليسوع وقت يضيعه: وكان سيلقيها، بدفعة مستعجلة، في غمرة الحقيقة. فقال لها:
من يشرب من هذا الماء يعطش، غير أن من يشرب من الماء الذي أنا أعطيه لن يعطش أبدًا. والماء الذي أنا أعطيه يصبح فيه ينبوعا يجري في الحياة الأبديّة.
وكلّ كلمة من الربّ يجب أن تؤخذ بحرفيتها... وهناك كثيرون من ظنّوا أنهم سكروا من هذا الماء. وقد انخدعوا، ولم يكن الماء الذي تكلّم عنه يسوع، لأنّهم شربوا منه ولا يزالون يشكون العطش. ولكن المرأة أجابت:
أعطنا، يا رب، من هذا الماء، لكيلا أعطش أبدًا، ولكيلا أرجع إلى هنا لأستقي.
اذهبي وادعي زوجك وارجعي إلى هنا.
دائمًا الطريقة ذاتها لاقناع البسطاء. تلك التي استعملها مع نتنائيل عندما قال له: "رأيتك تحت التينة". وكشف لهم فجأة هذه المعرفة التي كان يعرفها عن حياتهم، أو بالأحرى قدرته على الإقامة فيهم، ويبقى في سرّ كيانهم؛ ولذلك عندما أجابته السامريّة : "ليس لي زوج" أجابها:
إنّك على حقّ عندما تقولين: ليس لي زوج. لأنّه كان لك خمسة أزواج، والذي تقيمين معه الآن ليس بزوجك؛ في هذا المجال، قلتِ الحقيقة.
لم تكن المرأة من سلالة نتانائيل وسمعان الملوكية، ومن الذين غالبًا ما ينكبّون راكعين وهم يقرعون صدورهم. وهذه أولاً ليست سوى خاطئة أخذت بجريرتها، وهي لتحوّل انتباه هذا المعلّم اليهوديّ البصير، رفعت النقاش إلى المستوى اللاهوتيّ. وبعد أن تلعثمت، قالت: يارب، أرى أنك نبي... وأضافت بسرعة:
أباؤنا عبدوا على هذا الجبل، وأنت تقول إن العبادة يجب أن تتمّ في أورشليم...
لم يترك يسوع نفسه ينساق، فحوّل جانبًا الاعتراض ببعض كلمات... ولكن الوقت يداهم: هناك التلاميذ يعودون مع الأغذية. وسمعهم يتحدّثون ويضحكون. وكان يجب أن يتمّ كلّ شيء في غيابهم. وستنشر الحقيقة دفعة واحدة على هذه المسكينة.
أتت الساعة، وقد أتت حيث العبدة الحقيقيون سيعبدون الآب بالروح والحق. هؤلاء هم العبدة الذين يريدهم الآب. ان الله روح والذين يعبدونه يجب أن يعبدوه بالروح والحق.
وقالت السامرية: أني أعرف أن المسيح سيأتي وأنه سيعّلمّنا كلّ شيء.
وسمع وقع خطى التلاميذ على الطريق. وللإفراج عن السرّ الذي لم يطلع عليه حتى الآن أحدًا،اختار يسوع هذه المرأة التي كان لها خمسة أزواج والتي لها اليوم عشيق:
- أنا هو الذي يكلّمك الآن.
وفي الوقت عينه، ان هذه المرأة الشقية أعطيت نعمة نور، وهي نعمة قديرة بحيث ما من شكّ كان باستطاعته أن يطالها: أجل هذا اليهوديّ المسكين الذي أنهكه التعب، والذي طالما مشى في الشمس والغبار، والذي كاد يموت عطشًا بحيث انّه كان يستعطي السامريّة جرعة ماء، كان المسيح، مخلّص العالم.
وبقيت جامدة حتى سمعت الذين كانوا مع هذا الرجل، والذين كانوا يقتربون. اذذاك راحت تركض كانسان اشتعلت النار في ثيابه، ودخلت سوكار، وجمعت الناس، فيما كانت تصرخ:
هلّموا وانظروا رجلاً قال لي كلّ ما صنعت.
حتى ليظن ان المسيح، الذي كان قاعدًا على خرزة البئر، فيما كان تلاميذه يقدّمون له كسرة من الخبز ، كان يجد مشقّة في العودة الى المحيط الضيّق الذي أجبروه أن يعيش فيه: "أيّها المعلّم، كُلْ! " شددوا عليه. ولكن الحبّ الحيّ، الذي كشفته هذه المرأة، لم يكن له متسع من الوقت ليعود رجلاً به جوع وعطش.
- عليّ أن آخذ طعامًا لا تعرفونه.
هذا الجواب أتى أيضًا من عالم آخر. وظنّ هؤلاء المساكين أن أحدهم جاءه بطعام عجيب. ونظر إلى هذه العيون الجاحظة، وهذه الأفواه النصف مفتوحة، وأبعد من حصاد السامرة في النور المبهر إلى السنابل المبيّضة: وفوق السنابل الرؤوس المتحرّكة: القطيع الذي أتت به المرأة إليه (وربما كان عشيقها هناك).
ولامس يسوع أخيرًا الأرض، وحدّثهم عن أشياء التراب التي يعرفونها، وأورد مثلاً، وطمأنهم، وحملهم على أن يفهموا أنه عليهم أن يحصدوا ما زرع. وقد جعلهم صيّادي الناس، وأمّا الآن فسيكونون حصّاد السنابل البشريّة.
وأقام في ما بين السامريين المنبوذين يومين، فأعطى هكذا أخصّاءه مثلاً سينقل عبثًا إلى باقي الأرض. لأنّه اذا كان هناك جزء من الرسالة المسيحيّة رفضه الناس ونبذوه بعناد لا يقهر، فهو الايمان بأن لكلّ النفوس، وكلّ الأجناس، قيمة متساوية أمام الآب الذي هو في السماء.
أيّها الأخوة والأبناء الأعزّاء،
ان نعمة الله تعمل في نفوس المؤمنين عملا قد لا يفهمه الناس في حينه. ولكنّهم سيفهمونه لاحقًا. وهذا ما حدث لهذه المرأة الخاطئة. وقصّتها هي قصّة الكثيرين من المؤمنين الذين يظنون أنهم قريبون من الله، وهم بعيدون عنه كلّ البعد. فيما سواهم يعتقدون أنهم بعيدون من الله، وهم قريبون منه كلّ القرب، شرط أن يستجيبوا لداعي النعمة التي تعمل دائما في قلوب المؤمنين.