بنعمة الله ، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك ،
إلى إخوتنا المطارنة ، وأبنائنا القمامصة والقسوس ،
والرهبان والراهبات والشمامسة ،
وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية ،
على أرض الوطن ، وفى بلاد الانتشار .
القيامة نور إلهي
” أنتم اليومَ نورٌ فى الرب . فسيروا سيرة أبناء النور ” ( أفسس 5 : 8 )
فى الفصل التاسع من إنجيل القديس مرقس ، نقرأ أن الرب يسوع تجلـّى بمشهد من تلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنا ، على جبل طابور ، فى بهاء نورانى ساطع ، وسط النبيّين إيليا وموسى . وبعد ذلك ، بينما هو نازل من الجبل ، أوصى يسوع تلاميذه الثلاثة أن لا يخبروا أحدا ، إلا متى قام ابن الإنسان من بين الأموات. ويقول لنا الإنجيل المقدّس : ” فأخذوا يتساءلون : ما معنى : قام من بين الأموات ” ( مرقس 9 : 2 – 10 ) .
واليومَ أيضا ، بعد مضى أكثرِ من ألفى سنة على هذا الحَدث الفاصل فى تاريخ البشرية ، قد يحدث لنا أيضا أن نتساءل عن معنى : “قام من بين الأموات” ؟ من السهل أن نقبل بفرح وحنان ميلاد يسوع . نستطيع أن نحبّ الطفل الوديع ، وأن نتصوّر مغارة بيتَ لحم ، وترنيم الملائكة ، وفرح مريم ويوسف والرعاة والمجوس … أما القيامة ، فماذا تكون ؟ إنها لا تدخل فى إطار خبراتنا المحسوسة . وبالتالى تبقى رسالتها أحيانا مجهولة منا، وكأنها أمرٌ مضى ودخل التاريخ .
لذلك تعمل الكنيسة على مساعدتنا لنفهم حقيقة ومعنى هذا الحدَث الأساسى ، ليظل حاضرا فى حياتنا على الدوام ، فتقرّبه لنا بواسطة الرموز المحسوسة . وأهم هذه الرموز هو النور … كان النورُ أولَ ما خلقه الله . يقول كتاب التكوين : ” قال الله : ليكن نور ، فكان نور ” ( 1 : 3 ) . وحيث يكون النور تنبثق الحياة ، ويتحوّل الغمرُ الخالى والخاوى إلى كون منظـّم … وفى الكتاب المقدّس ، النور هو أبلغ صورة تعبّر عن الله . فالله هو ضياءٌ، حياة ، حقّ ، وصفاء.
وما حدث فى بدء الخليقة ، كما قدّمه لنا الكتاب المقدّس ، يتحقـّق بصورة كاملة فى فجر القيامة المجيدة . قال الله من جديد : ليكن نور ، فأشرقت القيامة بنورها المتوهّج . انهزم الموت ، صار القبر فارغا ، توالت ظهورات الرب يسوع حيا لتلاميذه ولكثيرين غيرِهم . القيامة نور إلهى . فيها يتجلى الرب يسوع فى كامل نوره . بها ينتصر النور نهائيا على كل ظلام . ومنها ينطلق نور الحقّ والسلام والحب إلى بنى البشر .
فى احتفالنا بقدّاس عيد القيامة المجيد ، وقبل الطواف بأيقونة السيد المسيح القائم من بين الأموات ، نطفىء الأنوار . وفى حوار بين الكاهن والمرنـّمين، نطلب أن تنفتح أبواب السماء الدهرية ليدخل ملكُ المجد ، الربُ يسوعُ الكلمة . ثم نهتف “خريستوس أنستى ، أى المسيح قام ” . فتضاء كل الأنوار ، ويمسك الحاضرون بشمعة مضيئة ويشتركون فى الطواف داخل الكنيسة . وبهذه الصورة تذكـّرنا وتؤكـّد لنا الكنيسة حقيقة القيامة ، وتقرّب لنا معناها الأساسى … قام المسيح نورا للعالم . والنور ضياء وحرارة ، وطاقة ُ تحويل . الشمعة تضىء ، وفى الآن نفسه تحترق . وكذلك الصليب والقيامة متلازمان . فمِن بذل الذات حبا بنا، حتى الموتِ على الصليب ، أشرق فجر القيامة وتجلى النور الكامل أمام الإنسانية .
فيسوع القائم من بين الأموات هو نفسه النور ، كما سبق وأعلن ” أنا نور العالم . من يتبعُنى لا يمشى فى الظلام ، بل يكون له نور الحياة ” (يوحنا 8 : 12) . بقيامة الرب يسوع دخل نور الله فى ليل التاريخ ، فأضاءه وحوّله إلى نهار دائم ، صانعا خليقة جديدة : ” ها أنا أجعل كلَّ شىء جديدا ” ( رؤيا 21 : 5 ) .
فى العهد القديم ، كانت الشريعة هى كلمة الله التى تضىء طريق الانسان إلى الله . وكما فصلت كلمة الله بين الظلام والنور فى بداية الخـَلق ، تفصل كلمة الله بين الحق والباطل ، بين الخير والشر . إنها ترشد الإنسان إلى الطريق القويم ليحيا حياة صحيحة : ” كلامك سراج لخطواتى ونور لطريقى ” (مزمور 119 : 105). إنها تهديه إلى الخير ، وتبيّن له الحقّ ، وتقوده إلى الحب ، الذى هو جوهرها الأساسى … والآن يتحقـّق كل ذلك بأكمل صورة ، فى المسيح الكلمة ، القائم من بين الأموات . ومتى عشنا معه وبه ، جعل منا إشعاعا لنوره فى العالم ، كما أعلن هو نفسه : ” أنتم نور العالم ” … ” ما من أحد يوقد سراجا ويغطـّيه بوعاء أو يضعه تحت سرير ، بل يضعه فى مكان مرتفع ، ليستنير به الداخلون ” … “فليضىء نوركم هكذا قدّام الناس ، ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ، ويمجّدوا أباكم الذى فى السماوات ” ( متى 5 : 14 – 16 ، لوقا 8 : 16 ) .
ويعلن القدّيس يوحنا فى رسالته الأولى : ” الله نورٌ لا ظلام فيه . فإذا قلنا إننا نشاركه ونحن نسلك فى الظلام ، كنا كاذبين ولا نعمل الحقّ . أما إذا سرنا فى النور ، كما هو فى النور ، شارك بعضـُنا بعضا ، ودم ابنه يسوع يطهّرنا من كل خطيئة ” ( 1 : 5 – 7 ) … ويكمّل قائلا : ” الظلام مضى والنور الحقّ يضىء . من قال إنه فى النور وهو يكره أخاه ، كان حتى الآن فى الظلام . ومن أحبّ أخاه ثبت فى النور ، فلا يعثر فى النور . ولكن من يكره أخاه فهو فى الظلام ، وفى الظلام يسلك ولا يعرفُ طريقه ، لأن الظلام أعمى عينيه ” ( 2 : 8 – 11 ) .
ويعلن القدّيس بولس الرسول لأبناء كنيسة أفسس : ” أنتم اليومَ نور فى الرب . فسيروا سيرة أبناء النور . فثمر النور يكون فى كل صلاح وتقوى وحقّ . فتـَعلـَّموا ما يرضى الرب ، ولا تشاركوا فى أعمال الظلام الباطلة ” … ويهيب بنا أن نشترك فى نور قيامة المسيح ، قائلا : ” إنهض أيها النائم ، وقم من
بين الأموات، يضىء لك المسيح ” ( 5 : 8 – 14 ) .
إننا نشكر الله تعالى من أجل كل الأنوار التى يعطيها للعالم ، فى الماضى وفى الحاضر وفى المستقبل ، لتكون شعلة تضىء الطريق ، ونورا يبدّد الظلام . نشكره من أجل القدّيسين والصدّيقين ، ومن أجل المعترفين والشهداء ، الذين شاركوا ويشاركون السيد المسيح فى بذل ذاتهم وسفك دمهم ، ثمنا لأمانتهم للحقّ والخير ، فأناروا دربَ البشرية بالحبّ والتضحية والسلام . وستبقى دائما هذه الشهادة أبلغَ لغة للحب الحقيقى ، وبها أوصانا المسيح : ” هذه هى وصيّتى : أحبّوا بعضكم بعضا مثلما أحببتكم . ما من حبّ أعظمُ من هذا : أن يضحّىَ الإنسانُ بنفسه فى سبيل أحبائه . وأنتم أحبائى إذا عملتم بما أوصيكم به” (يوحنا 15 : 12 – 14).
نشكر الله من أجل كل الذين يجعلون من حياتهم شمعة تضىء وتحترق ليستنير بها الناس . من أجل الوالدين ، ولا سيما الأمهات ، وقد احتفلنا بعيد الأم من مدّة قريبة . من أجل كل القائمين بأمانة وإخلاص بمسئوليات قيادية فى بلدنا الحبيب، وفى كل بلاد العالم . من أجل الرؤساء الكنسيين ، قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ، وقداسة البابا شنودة الثالث ، وباقى رؤساء الكنائس فى العالم . ومن أجل رؤساء الأديان الأخرى ، وعلى رأسها الدين الإسلامى . ولهؤلاء ولسائر القادة الدينيّين ، نلتمس من الله أن يهبهم النور ليكونوا هم بدورهم نورا ينشر الحقّ والخير والسلام والحب ، بمثالهم وبكلمتهم . وإننى أودّ أن أذكر هنا بكل حبّ وتقدير واعتزاز ، الراحلَ الكريم فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الشيخ محمد سيد طنطاوى ، شيخ الأزهر الشريف ، الذى فارقنا إلى رحمة الله ، بعد حياة حافلة بالعطاء والموّة والمحبة . ونتمنى كلَ توفيق لخلـَفه الجليل فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الشيخ أحمد الطيب .
فلنبتهل إلى الرب يسوع ، أن يحفظ شعلة إيماننا وقلوبنا وحياتنا متوهّجة بنوره هو ، نورِ الحقّ والعطاء والحب ، وأن يحميها من إغراءات العالم التى تطفىء النور فى النفوس البريئة ، ليجعلها تكبر وتزداد ضياءً وإشعاعا ، حتى نكون به ومعه أبناء النور ، لبناء عالم يضىء بالحقّ والعدل والسلام والإخاء والحب ، فى مصرنا الحبيبة وفى كل بلاد العالم .
وإلى أمنا العذراء مريم ، التى ندعوها بحق : أمَ النور ، لأنها أمُ يسوعَ ، النورِ الحقيقى ، نتضرع أن تجعلنا أمناء لهذه الرسالة ، مقتدين بإيمانها ، ومتمثـّلين بأمانتها ، فنرافقَ يسوعَ حتى النهاية ، حتى عند الصليب ، وعند القيامة ، واثقين فى حقيقة القيامة معه .
فى هذا المساء المبارك ، الذى نحتفل فيه بعيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات ، متـّحدين مع كل كنائس العالم ، نلتمس من الله تعالى أن يحفظ لنا رئيسنا المحبوب محمد حسنى مبارك ، فى كامل الصحة والعافية ، بعد أن عاد بسلامة الله إلى قيادة الوطن بعد العملية الجراحية الناجحة والحمد لله . ونصلى من أجل كل الذين يحملون معه أمانة المسئولية . سدّد الله خطاهُم ، وحفظ قواتنا المسلحة ، وحفظ مصر سالمة آمنة ومباركة .
قام المسيح . حقا قام … وكل عام وأنتم بخير وفرح وسلام .