الفاتيكان، الخميس 6 أكتوبر 2011 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي تعليم الأربعاء لقداسة البابا بندكتس السادس عشر في معرض مقابلته العامة مع المؤمنين ساحة القديس بطرس في الفاتيكان نهار الأربعاء 5 أكتوبر 2011.
* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
التوجه إلى الرب بالصلاة يعني فعل ثقة جذري، مع الوعي بأن الاتكال على الله هو أمر صالح، فهو "رحوم، شفوق، بطيء إلى الغضب، وغني بالحب والأمانة" (خر 34، 6 – 7؛ مز 86، 15؛ راجع غل 2، 13؛ تك 4، 2؛ مز 103، 8؛ 145، 8؛ نح 9، 17). اليوم أود التأمل معكم بالمزمور المليء بالثقة، يعبّر فيه المرنم عن قناعته الراسخة بأن الرب هو راعيه، وهو يقوده، يحميه ويقوده إلى الأمان من كل خطر. نحن بصدد المزمور 23 – بحسب الترقيم اليوناني اللاتيني 22 – وهو نص مألوف ومحبوب من الجميع.
"الرب راعيّ، لا يعوزني شيء": هكذا تبدأ هذه الصلاة الجميلة، ملمحة إلى البيئة البدوية الرعوية وإلى خبرة المعرفة المتبادلة التي تقوم بين الراعي والخراف التي تشكل قطيعه. تولد الصورة مناخًا من الثقة، الحميمية والحنان: الراعي يعرف خرافه واحدة واحدة، يدعوها باسمها وهي تتبعه وتتعرف عليه وتثق به (راجع يو 10، 2 – 4). هو يعتني بها، يحميها كخيرات ثمينة، وهو أيضًا مستعد دومًا للدفاع عنها، لضمان سلامتها، وجعلها تعيش بطمأنينة. لا يعوزها شيء إذا كان الراعي معها. يشير المرنم إلى هذه الخبرة، داعيًا الله راعيه، وسانحًا له أن يقوده نحو مراعٍ آمنة:
"في مراعٍ خصيبة يقيلني،
ومياه الراحة يوردني.
يرد نفسي،
ويهديني في السبيل القويم
لأجل اسمه" (الآيات 2 – 3).
المشهد الذي ينفتح أمام أعيننا هو مشهد حقل أخضر وينابيع ماء صافية، واحة سلام يرافق فيها الراعي القطيع، رمزًا للحياة التي يقود الرب المرنم إليها. يشعر هذا الأخير بأنه مثل الخراف التي تتمدد على العشب إلى جانب النبع، في حالة راحة، لا قلق أو توتر، بل ثقة وهدوء، لأن المكان آمن، الماء عذب، والراعي يسهر عليها.
لا ننسينّ هنا الصورة التي يلمح إليها المزمور، والتي تأتي من أرض هي بمعظمها صحراوية، تضربها الشمس الحارقة، حيث الراعي الشرق أوسطي ذي الحياة شبه متنقلة يعيش مع قطيعة في الغابات شبه الجافة القائمة حول القرى. ولكن الراعي يعرف أين يجد العشب والماء العذب، الضروريين للعيش، يعرف أن يحمل إلى الواحة حيث تتشدد النفس، فيضحي ممكنًا استرجاع القوى للتمكن من المسير من جديد.
كما يقول المرنم، الله يقوده نحو "مراع خصيبة" و "مياه راحة"، حيث كل شيء هو فائض، وكل شيء يُعطى بسخاء. إذا كان الرب هو الراعي، فحتى في الصحراء، في موضع الغياب والموت، لا تنقص ضمانة حضور حياة جذرية، ولذا يمكن القول: "لا يعوزني شيء". فالراعي يعنى بخير قطيعه، ويطابق وقع وقته وحاجاته مع حاجات قطيعه، يسير ويعيش معهم، يقودهم في سبل "بر"، أي في سبل مناسبة لهم، منتبهًا لحاجاتهم، لا لحاجاته الشخصية. سلامة القطيع هي أولويته الرئيسية، وهو يطيعها في هدايته للقطيع.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، نحن أيضًا مثل المرنم، إذا سرنا وراء "الراعي الصالح"، رغم صعوبة ووعورة وطول سبل حياتنا، التي غالبًا ما تمر في مناطق صحراوية روحيًا، دون ماء وتحت شمس العقلية المحرقة، فبرعاية الراعي الصالح، المسيح، نحن أكيدون من الذهاب في السبل "الصحيحة" وأكيدون أيضًا أن الرب يقودنا وهو دومًا قريب منا ولن يعوزنا شيء.
ولهذا يستطيع المرنم أن يصرح بأمان وثقة لا يعتريها شك أو خوف:
"إني ولو سلكت في وادي ظلال الموت،
لا أخاف شرًا، لأنك معي.
عصاك وعكازك
يهبانني الأمان" (الآية 4).
من يذهب مع الرب في وادي الألم المظلم، في وادي انعدام الضمانات وجميع المشاكل البشرية، يشعر أنه بالرغم من كل شيء في أمان. أنت معي: هذه هي ضمانتنا، التي تعطينا القوة. ظلام الليل يخيف بظلاله المتقلبة، وبسبب صعوبة تمييز المخاطر، وبسبب صمته المليء بالضجيج الذي لا يمكن فهمه. إذا تحرك القطيع بعد غياب الشمس، عندما تضحي الرؤية غير أكيدة، فمن الطبيعي أن تكون الخراف مضطربة، فهناك خطر السقوط أو الابتعاد أو الضياع، وهناك أيضًا الخوف من هجمات متجددة تستتر في الظلام.
للحديث عن وادي "الظلام"، يستعمل المرنم تعبيرًا عبريًا يتحدث عن "ظلال الموت"، وعليه، فالوادي الذي يجب المرور فيه هو مكان كآبة، ومخاطر رهيبة، وخطر موت. ومع ذلك، فالمصلي يسير واثقًأ، دون خوف، لأنه يعرف أن الرب معه. فتعبير "لأنك معي" هو إعلان ثقة لا تتزعزع، وتلخص خبرة إيمان جذرية؛ قرب الله يحول الواقع، يفقد وادي ظلال الموت كل طابعه الخطر، ويُفرغ من كل تهديد. يستطيع القطيع الآن أن يسير آمنًا، يرافقه صوت عصا الراعي الذي يدق الأرض ويذكر بحضور الراعي الذي يبعث إلى الثقة.
هذه الصورة المعزية تختم القسم الأول من المزمور، ويترك المكان لصورة أخرى. ما زلنا في الصحراء، حيث يعيش الراعي مع قطيعه، ولكننا ننتقل الآن إلى الخيمة، التي تنفتح للضيافة:
"تهيئ أمامي مائدة
تحت عيون أعدائي
تمسح بالدهن رأسي
وكأسي مروية" (الآية 5).
يتم تقديم الرب الآن كذلك الذي يقبَل المصلي، مع علامات ضيافة سخية ومليئة بالانتباه. يعد المضيف الإلهي الطعام على "المائدة"، تعبير يشير في العبرية، في معناه البدائي، إلى جلد الحيوان الذي يفرش على الأرض وتوضع عليه المشروبات للغذاء المشترك. إنه فعل مشاركة، لا للطعام فقط، بل أيضًا للحياة، في تقدمة شركة وصداقة تخلق ر وابط وتعبّر عن التعاضد. ومن ثم هناك هبة الزيت المعطر على الرأس، الذي يعطي ارتياحًا في حر شمس الصحراء، وينعش ويبلسم البشرة ويفرح الروح بعطره. وأخيرًا، الكأس المروية تضفي نفحة عيد، مع خمرها الفاخر، الذي تتم المشاركة فيه بسخاء فائض. الطعام، الزيت، الخمر: هذه هي الهبات التي تعطي الحياة والتي تسبغ الفرح لأنها تذهب أبعد مما هو ضروري بحت، لكي تعبّر عن المجانية وعن خصب الحب. يعلن المزمور 104، محتفلاً بصلاح الرب السخي: "أنت تنمي العشب للحيوانات والنبات الذي يزرعه الإنسان لكي يحصد الطعام من الأرض، الخمر يفرح قلب الإنسان، والزيت يجعل وجهه مشعًا والخبز يسند قلب الإنسان" (الآيات 14 – 15). يشعر المرنم أنه محط الكثير من الانتباه، ولهذا يرى نفسه مثل سائح يجد ملجأ في خيمة مضيافة، بينما يجب على أعدائه أن يتوقفوا لينظروا، دون أن يستطيعوا التدخل، لأن ذاك الذي كانوا يعتبرونه فريستهم بات الآن في أمان، صار ضيفًا مقدسًا، لا يمكن التعدي عليه. والمرنم هو نحن إذا كان حقًا مؤمنين بشركة مع المسيح. عندما يفتح الله خيمته ليستقبلنا، لا شيء يستطيع أن يؤذينا.
وعندما ينطلق السائح من جديد، تمتد الحماية الإلهية وترافقه في رحلته:
"نعم، الجودة والرحمة ترافقانني
جميع أيام حياتي،
وسأسكن في بيت الرب
لأيام طويلة" (الآية 6).
جودة الله ورحمته هما ذخيرة ترافق المرنم الذي يخرج من خيمته وينطلق. ولكن مسيرته تأخذ معنى جديدًا، وتضحي حجًا نحو هيكل الرب، المكان المقدس الذي يريد المصلي أن "يقيم" فيه والذي يجب أن "يعود إليه". الفعل العبري المستعمل هنا يعني "الرجوع"، ولكن مع تغيير حركات خفيف، يمكن أن يُفهم كـ "سَكَنإقامة"، وهكذا تم التعبير عنه في الترجمات القديمة، وفي معظم الترجمات الحديثة. كلا المعنيين هما مقبولان: الرجوع إلى الهيكل والإقامة فيه هو توق كل إسرائيلي، والإقامة بالقرب من الله وعيش حميميته وصلاحه هو توق واشتياق كل مؤمن: إمكانية العيش حقًا حيث الله موجود، بالقرب من الله. اتباع الراعي يحمل إلى بيته، وهذه هي غاية كل مسيرة، هذه هي الواحة التي يشتاق المرء إليها في الصحراء، الخباء عند الهرب من الأعداء، موضع السلام حيث من الممكن اختبار صلاح وحب الله الأمين، يومًا بعد يوم، في الفرح الهادئ، في زمن لا ينتهي.
لقد رافقت صور هذا المزمور، بغناها وعمقها، كل التاريخ وكل خبرة شعب إسرائيل الدينية وهي ترافق المسيحيين. تذكر صورة الراعي، بشكل خاص، زمن الخروج، المسيرة الطويلة في الصحراء، مثل قطيع تحت رعاية الراعي الإلهي (راجع أش 63، 11 – 14؛ مز 77، 20 – 21؛ 78، 52 – 54). وفي أرض الميعاد كان دور الملك أن يرعى قطيع الرب، مثل داود، الراعي المختار من الله وصورة المسيح (راجع 2 صم 5، 1 – 2؛ 7، 8؛ مز 78، 70 – 72). ومن ثم، بعد سبي بابل، تم نوع من خروج جديد (راجع أش 40، 3 – 5 . 9 11؛ 43، 16 – 21)، عاد إسرائيل إلى موطنه كخروف ضائع وقد وجد من جديد، يقوده الله إلى مراعٍ خصيبة وموضع راحة (راجع حز 34، 11 – 16 . 23 – 31). ولكن القوة التي يتحدث عنها المزمور تجد في الرب يسوع كل قوتها التعبيرية، تجد ملء معناها: يسوع هو "الراعي الصالح" الذي يذهب باحثًا عن الخروف الضال، يعرف خرافه ويهبها الحياة (راجع مت 18، 12 – 14؛ لو 15، 4 – 7؛ يو 10، 2 – 4 . 11 – 18)، هو الطريق، السبيل القويم الذي يؤدي إلى الحياة (راجع يو 14، 6)، النور الذي يضيء وادي الظلام ويغلب كل خوف (راجع يو 1، 9؛ 8، 12 ؛ 9، 5 ؛ 12، 46). هو المضيف السخي الذي يستقبلنا ويضعنا في مكان آمن لا يعكر صفون الأعداء، ويهيئ لنا وليمة جسده ودمه (راجع مت 26، 26 – 29 ؛ مر 14، 22 – 25 ؛ لو 22، 19 – 20) والوليمة النهائية المسيحانية في السماء (راجع لو 14، 15؛ رؤ 3، 20 ؛ 19، 9). هو الراعي الملكي، ملك الوداعة والغفران، الجالس على عرش صليبه المجيد (راجع يو 3، 13 – 15؛ 12، 32؛ 17، 4 – 5).
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، يدعونا المزمور الثالث والعشرين إلى تجديد ثقتنا بالله، مستسلمين كليًا بين يديه. فلنطلب إذًا بإيمان إلى الرب أن يعطينا، حتى في سبل زمننا الصعبة، أن نسير دومًا في سبله كقطيع طيّع ومطيع، وأن يقبلنا في بيته، على مائدته، ويقودنا إلى "مياه راحة"، لكيما، في قبول هبة روحه القدوس، يمكننا أن نشرب من نبعه، نبع الماء الحي "الذي يفيض للحياة الأبدية" (يو 4، 14؛ راجع 7، 37 – 39). شكرًا.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية
حقوق النشر محفوظة لدار النشر الفاتيكانية