بغداد، الخميس 3 نوفمبر 2011 (ZENIT.org). – وصل غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى العراق نهار الاثنين 31 أكتوبر في زيارة وصفت بالتاريخية، تلبية لدعوة غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث بطريرك السريان الانطاكي وبضيافة رئاسة مجلس الوزراء، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية الاولى لمجزرة كنيسة سيدة النجاة، ويرافق غبطته النائب البطريركي المطران كميل زيدان ومسؤول الاعلام والبروتوكول في بكركي المحامي وليد غياض، فضلاً عن عدد من أساقفة وكهنة الكنيسة السريانية الكاثوليكية.

       في مطار بغداد كان في استقبال غبطته والوفد المرافق سفير لبنان في بغداد السيد هزّاع شرَيف الذي اعتبر ان زيارة البطريرك الراعي إن دلّت على شيء فعلى القناعة الراسخة لدينا ولدى غبطته بوجوب التمسّك والحفاظ على الأخوة المسيحيين في هذا الشرق وهم جزء لا يتجزأ منه. وأضاف: لقد أتى صاحب الغبطة اليوم ليتوّج هذا النداء بحكمته وبقناعته الفكرية التي عوّدنا عليها منذ ما قبل انتخابه بطريركاً، وعندما تولى سدّة البطريركية أكّد ذلك بشعاره الكبير الذي رفعه، "شركة ومحبة" التي دعا اليها في لبنان بالأمس واليوم في بغداد. كما حضر أيضاً ممثل عن رئيس مجلس الوزراء السيد نوري المالكي، الذي رحّب بدوره، موضحاً أن الحكومة العراقية شاركت في تنظيم الزيارة من أجل انجاحها خاصة في اللقاءات مع المسؤولين العراقيين مبدياً أسفه لأنها تأتي بمناسبة الذكرى الأولى الأليمة والمأساوية لكل العراقيين من مسيحيين ومسلمين. كما حضر إلى المطار راعي أبرشية بغداد للسريان الكاثوليك وعدد من المطارنة والكهنة.

       عند الساعة الخامسة مساء ووسط دموع الفرح والتصفيق وغصّة خسارة الأعزّاء، دخل موكب المحتفلين بالذبيحة الالهية إلى كنيسة سيدة النجاة ، حيث ارتفعت الثياب الكهنوتية للكاهنين الشهيدين ثائر ووسيم، إلى جانب صور كافة الشهداء. شارك في القداس عدد من البطاركة والأساقفة من كافة الطوائف المسيحية، يتقدمهم نيافة الكردينال عمانوئيل دلّي بطريرك بابل للكلدان، والسفير البابوي في العراق، كما حضر ممثلون عن كافة الطوائف الاسلامية، وحشد من المؤمنين وأهالي الشهداء.

       وتحت عنوان "دماء الشهداء بذار للحياة"، كانت كلمة افتتاح وترحيب من راعي أبرشية بغداد للسريان الكاثوليك المطران افرام يوسف عبّا، أشار فيها إلى أن استهداف المسيحيين في العراق كارثة خطيرة تصبّ في خانة الخطط الجهنّمية وتُعدّ تحدّياً سافراً لوحدة العراق وطعناً في نسيجه الاجتماعي والديني بكل مكوّناته الأساسية، وطالب سيادته الحكومة بالتصدّي لمشروع تهجير المسيحيين من العراق.

بعد الانجيل المقدّس ألقى البطريرك يونان كلمة شكر فيها للبطريرك الراعي زيارته التاريخية، اعتبر فيها أن كنيسة سيدة النجاة هي الشاهدة على ايمان أبنائها الصامد المتجذّر في العراق، من أجل المحبة والسلام والعدالة، كأساس لا غنى عنه للمواطنة الصحيحة بين جميع مكونات الشعب المتطلّع إلى مستقبل مشرق. وأضاف غبطته: "اذا كان سرّ الاستشهاد كامناً في بطولة من نذكرهم اليوم، ففعل الغفران من قبل الجرحى وذوي الشهداء والشهيدات ومن قبلنا جميعاً، لا بد وأن يتألق في سماء أرضنا الجريحة والمبتلاة بالحقد والعنف، عنواناً لايماننا بالذي سامح صالبيه وقام ممجداً يبشّر بالسلام الحقيقي".

       وفي ختام القداس ألقى غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كلمة تحت عنوان "حبّة الحنطة ان وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير". ومما جاء فيها: "بلغت محبة الله ذروتها عندما مات يسوع المسيح - كلمة الله - فداء عن كل انسان في التاريخ مقدماً ذاته ذبيحة من أجلنا. وبقيامته منتصراً على الخطيئة والموت أجرى المصالحة الكاملة بين الله والبشر وولدت البشرية الجديدة المتمثّلة بالكنيسة جسد المسيح السرّي، وشبّه هذا السرّ العظيم بحبة الحنطة"... ومن الذين نهجوا بامتياز نهج حبة الحنطة هم شهداؤنا الأحباء السبعة والأربعون، وعلى رأسهم كاهنان، الأبوان ثائر ووسيم وقد انتقلت في ذاك اليوم منذ سنة ذبيحة يسوع من المذبح إلى أجسادهم فكانوا ذبيحة فداً عن العراق الحبيب وعن كل خطيئة وشرّ، ذبيحة تكفير وتشفّع من أجل السلام في العراق، ومن أجل العدالة والمحبة والاستقرار، وأحسنتم اذ رفعتم على أبواب الكنيسة وفي أمكنة عديدة الشعار "دماء الشهداء بذار للحياة"...

       بتأثر كبير وبروح الشركة والمحبة أتينا من لبنان مع صاحب الغبطة وأصحاب السيادة والوفد المرافق، باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان ومجلس بطاركة الشرق الكاثوليك وباسم الكنيسة في لبنان لنشارك الكنيسة في العراق في هذه الذبيحة المقدسة، ونحمل رجاء كبيراً ينبعث من سرّ ذبيحة يسوع وموته وقيامته، أتينا لا لنؤاسي فقط بل لنجدد الرجاء، بل أقول للتطويب، نعم أقول للتطويب وأرجو من أهل الشهداء ومن الشهداء الأحياء الذين شهدوا استشهادهم، أتينا لنطوّب ولندعو كل الجرحى وكل المبددين والمشتتين من أبناء العراق في أي مكان وتحت كل سماء، جئنا لنقول بايماننا المسيحي، طوباهم شهداؤكم، وطوباكم أيها الشهداء الأحياء لأن فيكم وفيهم تحققت كلمة الرب يسوع، انهم حبة الحنطة ليحيا شعب العراق الجديد حياة جديدة، مع كل الشهداء الأبرار والضحايا البريئة، هذه الدماء الذكية تستصرخ ضمائرنا جميعاً وضمائر المسؤولين في العراق وخارجه من أجل السلام والاستقرار والوحدة والمصالح ة للانطلاق من جديد في حياة جديدة...

       في عنصرة سينودس الشرق الأوسط تأملنا في معنى حضورنا كمسيحيين في بلداننا في الشرق الأوسط، أن نكون مثل حبة الحنطة، أن نعطي ونبذل ونتفانى في سبيل أوطاننا ومجتمعاتنا. ووجودنا هو وجود محبة وسلام ومصالحة وعدالة وأخوة وقبول للآخر المختلف... لنعيش جمال المسيحية والكنيسة.

       العراق يتمخّض ويتألم، وشعبه يبحث عن السلام والطمأنينة ... واذا بهؤلاء الشهداء يسقطون في ختام السينودس. واذ كنت أقدم التعزية لأخي صاحب الغبطة البطريرك يونان، قلت له: طوبى لكنيستك هنيئاً لها لأنها تقدم للسماء عن العراق وعن كل الشرق الأوسط أجمل ما عندها، شهداء كهنة ومؤمنين من كل الأعمار، فالرب يريد من خلال ذلك أن ينعم على العراق وعلى كنيستكم خيراً كبيراً سنعرفه وسنشهده في المستقبل... هذا ايماننا، وهو ليس بكلمات، انه كلمة تجسّدت وافتدتنا على الصليب وقامت من الموت منتصرة على الخطيئة والشرّ، كلمة فاعلة في التاريخ ...

       هذه هي الشركة والمحبة نحملها من الكنيسة في لبنان، لنقول لكم: نحن معكم متضامنون، نحن معكم وبكم مترابطون، هذه الرسالة أيضاً حمّلني اياها فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي وقبل وصولنا إلى مطار بيروت اتصل هاتفياً ليقول لي: أنت ذاهب مع صاحب الغبطة ووفد لبناني إلى العراق، أرجو أن تعتبروا أننا معكم نصلّي، من لبنان وقولوا لشعب العراق الحبيب أن لبنان الذي اختبر الموت والقيامة هو معكم، متضامن معكم في كل شيء، وأنتم تعرفون يا أهلنا الأحباء أن بين العراق ولبنان روابط محبة كبيرة، روابط اجتماعية وروحية، هذه لن تنفصم، وأن شهداءنا الذين نحيي تذكارهم اليوم قد طبعوا وختموا هذه الصداقة وهذا الترابط.

نحن واذ نصلّي، نذكر معنا أيضاً كل بلداننا في الشرق الأوسط، ومعظمها يعيش آلاماً نرجو أن تكون آلام مخاض وأن تكون مثل حبة حنطة تموت من أجل حياة جديدة. أجل وانطلاقاً من العراق حيث انطلق كل تاريخ الخلاص من ابراهيم، ومن هذا الشرق الذي انبثقت منه الديانات والذي فيه ابن الله الكلمة أخذ جسداً وبذل جسده ودماءه فداءً عن البشر وانطلقت القيامة الجديدة، آن لهذا الشرق أن يكون شرقاً أي شمساً ساطعة، آن لهذا الشرق ألا يكون أرض دمار وحرب أرض حديد ونار بل أرض محبة وسلامة وأخاء وطمئنينة وحضارة للشعوب. هي مسؤوليتنا أيها الأحباء. فحرام أن يكون شهداؤنا، كل الشهداء، قد بذلوا دماءهم من أجل لا شيء. بل نحن نؤمن أن دماءهم ستكون حقاً بذاراً لحياة جديدة. بهذه الثقة، واليد باليد والقلب مع القلب نواصل خدمتنا ورسالتنا كلنا في هذا الشرق، بكل بلداننا وطوائفنا ومذاهبنا، نحن مواطنون بنينا معاً اوطاننا وتفانينا في سبيلها إلى ما بلغت اليه من تقدّم وترقّي، كلنا مترابطون بمصير واحد ورسالة واحدة وحضور واحد. العالم بحاجة الينا العالم الذي يعيش صراع حضارات وديانات، نحن مسؤولون أن نؤدي للعالم رسالة أن الثقافات والأديان على تنوّعها لا تتصارع بل تعيش وتبني فسيفساء جميلة. هذه رسالتنا نجددها اليوم، نحن نريد أن نحوّل كل الدموع الحزينة إلى دموع فرح ورجاء ونحن نعرف أن الانسان يبكي في حالتين، عند الحزن وعند الفرح. بكيتم ما فيه الكفاية دموع حزن يا أهل الشهداء الأحباء، ويا أيها الشهداء الأحياء ويا شعب العراق الحبيب، أما الآن وفي ضوء كلمة الانجيل، وما كتبتم هنا وهنالك، حوّلوا هذه الدموع إلى دموع فرح وقيامة.

أيها الرب يسوع، أنت الذي مشيت أمامنا نهج حبّة الحنطة، فكنت أنت حبة الحنطة اذ بفيض من حبّ الله للبشر قدمت ذاتك ذبيحة فداء وتكفير عن خطيئة كل انسان يولد لامرأة في العالم وبقيامتك أعطيت الحياة الجديدة للبشر، نشكرك ربي، على كل الذين يعيشون نهج حبة الحنطة، في العائلة، في المجتمع، في الكنيسة وفي الدولة، من أجل خير الأخوة. نسألك ربي أن تخرجنا من هذا اللقاء وتملأ قلوبنا رجاءً عظيماً وتجدد فينا العزم أن يكون كل واحد منا حيث هو، ونحن كجماعة، حبّة حنطة اذا وقعت في الأرض وتفانت، اعطت ثمراً كثيراً. لك المجد والشكر إلى الابد.

       وفي خطوة مؤثّرة جداً، قام راعي أبرشية بغداد في نهاية الاحتفال بتقديم ملف دعوى تطويب الكاهنين الشهيدين ثائر ووسيم إلى غبطة البطريرك يونان، تمهيداً لرفعه إلى المراجع الكنسية المختصة.