تعليم الأربعاء لقداسة البابا بندكتس السادس عشر

الفاتيكان، الجمعة 4 نوفمبر 2011 (ZENIT.org). – احتفل البابا يوم الأربعاء 26 أكتوبر بليتورجية الكلمة مع المؤمنين في قاعة بولس السادس في الفاتيكان، إعدادًا ليوم التفكير، الحوار والصلاة ومن أجل السلام والعدالة في العالم، والذي سيُحتفل به في مدينة القديس فرنسيس، أسيزي، يوم غد الخميس 27 أكتوبر 2011.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بعد التحية إلى المؤمنين، وجه البابا هذه الكلمة إلى المؤمنين الحاضرين.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

تأخذ المقابلة العامة اليوم طابعًا خاصًا، لأننا في عشية “يوم التفكير، الحوار والصلاة ومن أجل السلام والعدالة في العالم” الذي سيعقد غدًا في أسيزي، بمناسبة مرور 25 عامًا على اللقاء التاريخي الذي دعا إليه الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني. لقد أردت أن أعطي لهذا اليوم العنوان التالي: “حجاج الحقيقة، حجاج السلام”، لكي أشير إلى الالتزام الجدي الذي نود تجديده، مع أعضاء الأديان الأخرى، وأيضًا مع غير المؤمنين الذي يبحثون بصدق عن الحقيقة، عن تعزيز الخير الحق للبشرية وعن بناء السلام. كما سبق وذكرت، “من يسير نحو الله لا يستطيع إلا أن ينقل السلام، ومن يبني السلام لا يستطيع إلا أن يتقرب من الله”.

كمسيحيين، نحن مقتنعون بأن الإسهام الأكبر الذي نستطيع تقديمه لقضية السلام هو إسهام الصلاة. لهذا السبب نلتقي اليوم، ككنيسة روما، مع الحجاج الحاضرين في المدينة، لسماع كلمة الله، لكي نطلب بإيمان نعمة السلام. الرب يستطيع أن ينير عقولنا وقلوبنا ويقودنا لكي نكون بناة عدالة ومصالحة في واقعنا اليومي وفي العالم.

في نص النبي زكريا الذي سمعناه لتونا تردد صدى إعلان مليء بالرجاء والنور (راجع زك 9، 10). يعد الرب بالخلاص، يدعو إلى “الابتهاج كثيرًا” لأن هذا الخلاص سيتحقق. يتم الكلام عن ملك: “ها إن ملكك يأتي إليكِ. هو عادل وظافر” (الآية 9)، ولكن ما يتم الإعلان عنه ليس ملكًا ذا سلطان بشري، قوته قوة السلاح؛ ليس ملكًا يسود بالقوة السياسية والعسكرية؛ هو ملك عادل، يملك بالتواضع والوداعة أمام الله والبشر، ملك مختلف عن سادة العالم: “يركب حمارًا ابن آتان”، بحسب قول النبي. يظهر ممتطيًا حيوانًا هو من خاصة عامة الناس، الفقراء، بعكس خيول الحرب التي يمتطيها أقوياء الأرض. لا بل هو ملك سيزيل عربات الحرب، سيقطع أقواس المعارك، سيعلن السلام للأمم (راجع الآية 10).

ولكن، من هو هذا الملك الذي يتحدث عنه زكريا؟ فلنذهب لحظة إلى بيت لحم ولنصغ إلى الملاك الذي يخاطب الرعاة الساهرين في الليل على قطيعهم. يعلن لهم الملاك بشرى فرح ستكون لكل الشعب، مرتبطة بعلامة فقيرة: طفل ملفوف بالقماطات، موضوع في مذود (راجع لو 2، 8 – 12). والجموع السماوية تغني” المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام، للبشر الذين يحبهم” (الآية 14)، إلى ذوي الإرادة الصالحة. ولادة ذلك الطفل، الذي هو يسوع، تحمل بشرى السلام إلى كل المعمور. ولكن فلنذهب إلى تلك اللحظات النهائية من حياة يسوع، عندما يدخل أورشليم فيستقبله الجمع المبتهج. لقد توارد إلى فكر التلاميذ ما أعلن عنه النبي زكريا عندما تحدث عن مجيء ملك متواضع ووديع، فطبقوه على يسوع، خصوصًا عندما نظروا إلى حدث دخول المعلم إلى المدينة المقدسة بعيون الإيمان بعد الآلام، الموت والقيامة ، بعد السر الفصحي. يمتطي الرب حمارًا مستعارًا (راجع مت 21، 2 – 7): لا يدخل على عربة غنية، ولا على حصان مثل العظام. لا يدخل أورشليم يرافقه جيش جرار وخيالة. هو ملك فقير، هو ملك فقراء الله. يظهر في النص اليوناني تعبير “praeîs“، الذي يعني الودعاء المتواضعين؛ يسوع هو ملك “العناويم”، ملك أولئك الذين تحرر قلبهم من شبق التسلط والغنى المادي، من إرادة وطلب التسلط على الآخرين. يسوع هو ملك الحرية الداخلية التي تجعلنا قادرين أن نتخطى الجشع، والأنانية الموجودة في العالم، والتي تجعلنا ندرك أن الله وحده هو الغنى الحق.

يسوع هو ملك فقير بين الفقراء، وديع بين الذين يريدون أن يكونوا ودعاء. بهذا الشكل هو ملك السلام، بفضل قوة الله، التي هي سلطان خير، سلطان حب. إنه ملك سيزيل عربات وخيول الحرب، والذي سيكسر أقواس الحرب؛ ملك يحقق السلام على الصليب، ويربط السماء بالأرض من خلال جسر أخوة بين البشر. الصليب هو قوس السلام الجديد، علامة وأداة المصالحة، الغفران، التفاهم، علامة الحب الأقوى من العنف ومن الموت: السبيل للتغلب على الشر هو الخير، هو الحب.

هذا هو ملكوت السلام الجديد الذي المسيح ملكُه؛ وهو ملكوت يمتد على كل الأرض. يعلن النبي زكريا عن هذا الملك الوديع، المسالم، والذي سيسود “من البحر إلى البحر، ومن النهر حتى أقاصي الأرض” (زك 9، 10). إن الملكوت الذي جاء المسيح لتدشينه له أبعاد كونية. أفق هذا الملك الفقير الوديع ليست رقعة الأرض، أو الدولة، بل أقاصي الأرض؛ أبعد من كل حدود الأعراق، اللغات والثقافات. هو يخلق الشركة، يخلق الوحدة. وأين يمكننا أن نرى تحقق هذا الإعلان اليوم؟ في شبكة الجماعات الافخارستية الكبيرة المنتشرة في كل الأرض تظهر نيرة من جديد نبوءة زكريا. إن لفسيفساء جماعة تظهر فيها ذبيحة الحب التي قدمها هذا الملك الوديع والمسالم؛ إنها فسيفساء تشكل “ملكوت سلام” المسيح من البحر إلى البحر وحتى أقاصي الأرض؛ إنها حشد من “جزر السلام”، التي تشع بالسلام.

في كل مكان، في كل واقع، في كل ثقافة، من المدن الكبيرة مع قصورها، إلى القرى الصغيرة مع مساكنها المتواضعة، من الكاتدرائيات الضخمة إلى الكابيلات الصغيرة، يسوع يأتي، يحضر؛ وفي الشركة معه يتحد البشر في ما بينهم في جسد واحد، فيتخطوا الانفصال، العداوة والضغينة. يأتي الرب في الافخارستيا لكي ينزع منا الانفرادية، لكي يحررنا من خصخصاتنا التي تستثني الآخرين، لكي يجعل منا جسدًا واحدًا، ملكوت سلام واحد في عالم منقسم.

ولكن كيف يمكننا أن نبني ملكوت سلام المسيح الذي هو ملك؟ الوصية التي يت
ركها لتلاميذه، من خلالهم، لجميعنا، هي: “اذهبوا في العالم بأسره وتلمذوا جميع الشعوب… وها أنا معكم كل الأيام، حتى نهاية العالم” (مت 28، 19). كيسوع، يجب على مرسلي سلام ملكوته أن يبدأوا المسير، أن يجيبوا على دعوته. يجب عليهم أن يذهبوا، لا بقوة الحرب أو بسلاطين العالم. في الإنجيل الذي أصغينا إليه يرسل يسوع 72 تلميذًا إلى الحصاد الكبير الذي هو العالم، داعيًا إياهم للصلاة إلى رب الحصاد لكي لا ينقص العملة في حصاده (راجع لو 10، 1 – 3). ولكنه لا يرسلهم مع وسائل قوية، بل “كحملان بين الذئاب” (الآية 3)، دون كيس دراهم دون مزودا ودون حذاء (راجع الآية 4).

يعلق القديس يوحنا فم الذهب في إحدى عظاته فيقول: “طالما نحن حملان، فسننتصر، حتى لو كنا محاصرين بالذئاب، سنستطيع أن نتخطاهم. ولكن إذا ما أضحينا ذئابًا، سنُغلب، لأننا سنفتقر لعون الراعي” (Omelia 33, 1: PG 57, 389). لا يجب على المسيحيين أن يقعوا أبدًا في تجربة أن يضحي ذئابًا بين الذئاب؛ فملكوت سلام المسيح لا ينتشر بفضل السلط، ولا من خلال القوة، ولا بالعنف، بل من خلال هبة الذات، من خلال الحب المحمول إلى أقصى حدوده، حتى نحو الأعداء. يسوع لا يغلب العالم بقوة السلاح، بل بقوة الصليب، الذي هو ضمانة النصر. وهذا الأمر له تبعاته لمن يريد أن يكون تلميذ الرب، مرسله، الحاضر أيضًا للألم والاستشهاد، لكي يفقد حياته من أجله، لكي ينتصر في العالم الخير، الحب والسلام. هذا هو الشرط الذي بفضله يمكننا أن نقول، لدى دخولنا في أي واقع: “سلام لهذا البيت” (لو 10، 5).

أمام بازيليك القديس بطرس، نجد تمثالين كبيرين للقديسين بطرس وبولس، يمكن التعرف عليهما بسهولة: فبطرس يحمل في يده المفاتيح، أما بولس فيحمل السيف. لمن لا يعرف قصة هذا الأخير يمكن أن يظن أنه بصدد قائد عظيم يقود جيوشًا جرارة بالسيف وأخضع الشعوب والأمم، وحاز على الشهرة والغنى على حساب دم الآخرين. ولكن الواقع هو عكس هذا: السيف الذي يحمله في يديه هو وسيلة الموت التي ماته بولس شهيدًا سافكًا دمه. معركته لم تكن معركة عنف، حرب، بل الشهادة للمسيح. سلاحه الوحيد كان الإعلان عن “يسوع المسيح وهذا مصلوبًا” (1 كور 2، 2). إن تبشيره لا يرتكز “على خطابات إقناع وعلى الحكمة البشرية، بل على اعتلان الروح وقوته” (الآية 4). كرس حياته لحمل رسالة المصالحة وسلام الإنجيل، مستهلكًا قواه لكي يردد صداه في أقاصي الأرض. وكانت هذه قوته: لم يبحث عن حياة سهلة، مرتاحة، بعيدة عن المصاعب والعوائق، بل استهلك نفسه للإنجيل، وقدم ذاته دون تردد، وصار بهذا الشكل أكبر رسول للسلام والمصالحة في المسيح. إن السيف الذي يحمله بولس في يده يذكر أيضًا بقوة الحقيقة، الذي غالبًا ما تجرح وتوجع؛ لقد بقي الرسول أمينًا حتى أعماق هذه الحقيقة، خدمها وتألم لأجلها، وسلم حياته من أجلها. هذا المنطق ينطبق علينا أيضًا، إذا ما أردنا أن نحمل ملكوت السلام الذي أعلن عنه النبي زكريا وحققه المسيح: يجب علينا أن نكون مستعدين إلى أن ندفع الثمن شخصيًا، أن نتألم شخصيًا بسبب سوء الفهم، الرفض، الاضطهاد. ليس سلاح الفاتح هو الذي يبني السلام، بل سيف المتألم الذي يعرف أن يهب حياته.

أيها الإخوة والأخوات، كمسيحيين نريد أن نطلب من الرب هبة السلام، نريد أن نصلي إليه لكي يجعلنا وسائل سلامه في عالم ما زال ممزقًا بسبب الكره، الانقسامات، الأنانية، الحروب، نريد أن نطلب إليه أن يعزز لقاء غد في أسيزي الحوار بين الأشخاص المنتمين إلى مختلف الأديان وأن يحمل إشعاعًا من نور قادرًا أن ينير عقول وقلوب كل البشر، لكي يفسح الحقد المجال للغفران، والانقسام للمصالحة، الكره للحب، العنف للوداعة، ويعم العالم السلام. آمين.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية

حقوق النشر محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير