بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الجمعة 11 نوفمبر 2011 (ZENIT.org). – في المجلد الأول من مؤلفه العظيم، “يهودي هامشي” (A Marginal Jew)، يستعرض الباحث جون مايير المراجع القديمة التي تذكر يسوع أو تتحدث عنه، فيعتبر كتابات يوسفوس فلافيوس، وخصوصًا نصه المعروف تاريخيًا باسم “شهادة فلافيوس” والذي يرد في كتاب “الأخبار اليهودية القديمة”، كما ويستعرض “حوليات” تاكيتوس، و “سيرة حياة الإمبراطور كلاوديوس” للمؤرخ سفيتونيوس، ورسالة بلينيوس الحاكم للإمبراطور ترايانوس، والمؤلف الساخر “موت بيريغرينوس” للوشيانوس من ساماوستا، والأناجيل المنحولة[1].
وما يلاحظه الباحث هو أن كل هذه النصوص تقدم إما شهادات مختصرة جدًا، أو هامشية، أو عمومية، أو بعيدة تاريخيًا عن يسوع، وبالتالي لا تستطيع أن تشكل مرجعًا كافيًا وموثوقًا للتعرف على يسوع. إنما هذا هو واقع ملموس، لا بد لأي مؤرخ أن يقبله.
المرجع الأكبر حول يسوع التاريخ هو الكتاب المقدس، الأناجيل الأربعة ورسائل القديس بولس. وهذا الأمر يشكل مشكلة كبيرة[2]. فالأناجيل ليست سيرة حياة كاملة ليسوع، وليست مختصرات تاريخية عن حياته. ما هي إذًا قيمة الأناجيل الأربعة[3]؟
من الأهمية بمكان أن نعي أن الأناجيل قد مرت في مرحلة صياغة طويلة. ففي أيامنا تتم كتابة الكتب، أما في الماضي، فكانت الكتب تنمي مع الوقت. لهذا لا يمكننا أن نعتبر الأناجيل كسير ليسوع كتبت على طاولة أو في مكتبة. ترتبط الأناجيل بتقليد الجماعة الشفوي. هذا التقليد عينه تم تسطيره في ما بعد للحفاظ على ذاكرة الجماعة في المستقبل، لكي يكون للأجيال اللاحقة لقاء مع دقة خبرة المسيح.
إن الوثيقة المجمعية حول الوحي الإلهي للمجمع الفاتيكاني الثاني “كلمة الله” (Dei Verbum)، تقدم لنا مختصرًا وافيًا لمراحل نشأة الأناجيل: “أما المؤلِّفون القدِّيسون فقد كتبوا الأناجيل الأربعة وإختاروا بعضَ ما كان يُنقل بغزارةٍ، شفوياً أو كتابةً، وأَوجزوا البعض الآخر أو فسَّروه مع مراعاة ظروف الكنائس، وإحتفظوا أخيراً بأسلوبِ الكرازة بحيث أنَّهم أعطونا دوما عن يسوع ما هو حقٌّ وصادق” (عدد 19).
هذا النص المختصر والمكثف يعطي أهمية خاصة للإطار الحياتي (Sitz im Leben) الذي نشأت فيه الأناجيل، فيقدم خمسة مفاتيح لفهم النوايا التي حركت الإنجيليين على الكتابة: الاختيار، الإيجاز، مراعاة ظروف الكنائس، الهيكلية، النية. فالإنجيليون يقومون بعمل اختيار، ويقدمون ملخصًا للأحداث الكثيرة التي عاشها يسوع في حياته. ويأتي اختيارهم انطلاقًا من مراعاتهم لحالات وحاجات الكنائس التي يوجهون البشرى إليها، في شكل يطابق هيكلية الوعظ، وبنية محددة، هي تقديم وقائع حقيقية وصادقة حول يسوع.
عمل الإنجيليين إذًا هو عمل بحث، إيجاز وتفسير، كما يلاحظ الأسقف فرنشيكسو لامبيازي، ولكنه في الوقت عينه عمل صدق وأمانه. يقول الأسقف اللاهوتي بشأن حرية الإنجيل في الكتابة أنها كانت دومًا “مرتبطة بأمانة للتقليد، ولم تخن يومًا هذه الأمانة”.
بكلمات أخرى، تمكن الإنجيليون أن يؤقلموا النصوص ويفسروها، ولكن لم يقوموا باختراع الوقائع أو تشويهها”، والدليل على ذلك هو أن الشخصية التي يرسمها الإنجيليون ليسوع هي رغم تنوعها لا تتناقض بين بعضها[4].
وعليه فإن ألفة الأناجيل تسمح لنا أن نعيش تواصلاً مباشرًا مع أصداء التبشير الأول، الذي يعبر بدوره عن اللقاء المباشر بتلاميذ يسوع الأولين. إن كلمات الأناجيل في بساطتها تكشف لنا وجهًا فريدًا من وجوه يسوع، وهدفنا في المرات المقبلة هو التوقف بعمق أكثر على بعض الآيات التي تحرمنا العادة من اكتشاف عمقها ومعناها الكامن.
(يتبع)
[1] Cf. J.P. Meier, A Marginal Jew. Rethinking the Historical Jesus, Vol. I, The Roots of the Problem and the Person, New York 1991, 56-166.
[2] Cf. J.P. Meier, A Marginal Jew, op. cit., 41.
[3] بما أنه لا يمكننا أن نتعمق في هذا الموضع بهذه المسألة، نشير إلى بعض الكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع بتفصيل ووضوح:S. Pié-ninot, La teologia fondamentale. Rendere ragione della speranza (1 Pt 3,15), Queriniana, Brescia 2002, 321ss.; R.E. Brown, Introduzione al Nuovo Testamento, Queriniana, Brescia 2001, 171-176; P. Sequeri, Il Dio affidabile. Saggio di teologia fondamentale, Queriniana, Brescia 20003, 159ss; C.M. Martini, C’è ancora qualcosa in cui credere, Piemme, Milano 1993, 11-34.
[4] F. Lambiasi, «Credo in Gesù Cristo» in F. Lambiasi – G. Tangorra, Gesù Cristo comunicatore, Paoline, Milano 1997, 17.