"الإفخارستيا والكرازة الجديدة بالإنجيل"

بيروت، الاثنين 14 نوفمبر 2011 (Zenit.org). – كلمة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في افتتاح مؤتمر أصدقاء القربان في لبنان.

Share this Entry

* * *

يسعدني أن ألقي كلمة الإفتتاح لهذا المؤتمر الذي ينظّمه أصدقاء القربان في لبنان، فأحيّيهم ورئيستهم السيدة منى نعمه، وكل المشاركين. تتناول كلمتي ثلاث نقاط:

تحديد المضمون اللاهوتي لكل من اللفظتيّن الإفخارستيا والكرازة الجديدة بالإنجيل، العلاقة بينهما وثمارهما، وأخيراً إرتباطهما بالحضور المسيحي في الشرق الأوسط.

1-الإفخارستيا المقدسة هي سرّ محبة الله اللامحدودة لكل إنسان. هي الخبز النازل من السماء، يسوع المسيح إبن الله المتجسّد، الذي يعطي ذاته لحياة العالم في ثلاث :كلمة حقّ تغذّي عقل الإنسان وثقافة الشعوب، وذبيحة فداء عن خطايا البشر أجمعين، وطعام الحياة الإلهيةفينا .هذه العطية المثلثة تشكل حضارة المحبة.

الكرازة الجديدة بالإنجيل هي إعلان الإنجيل من جديد للجماعات المسيحية التي لا تعيش إيمانها المسيحي، بل تجهله، بالرغم من انتمائها إلى مجتمع مطبوعة ثقافته في الأصل بالإنجيل .وذلك لأسباب شتى مثل: المتغيّرات والتطورات وتقدّم العلوم والتقنيات الحديثة التي بدّلت بالعمق النظرة إلى عالمنا؛ أجواء الحرية الشخصية؛ والحسّ الديني؛ انتشار اللامبالاة الدينية والعلمنة والإلحاد؛ التصرف وكأنّ الله غير موجود؛ زعزعة الإيمان بإله خالق وذي عناية بكل إنسان وبيسوع المسيح كمخلّص وحيد؛ تراجع الدفء العائلي حيث يولد الإنسان ويعيش ويموت.

تقتضي الكرازة الجديدة بالإنجيل، إيجاد المناسب والملائم من الطرق والمنطق والأسلوب والنهج لإيصال كلام الحياة إلى معاصرينا، إلى الإنسان عامة، إلى الأطفال والشباب، إلى الكبار والمسنّين، إلى العائلة والمؤسسة، إلى العاملين في الحقل العام والشؤون الزمنية. وتقتضي ايجاد سبل جديدة ومنطق جديد لعرض الوحي الالهي والإيمان بيسوع المسيح والإنتماء إلى الكنيسة، جسده السرّي وجماعة الإيمان والرجاء والمحبة.(الإرادة الرسولية: “في كل مكان ودائماً” (21 ايلول 2010) التي أنشأ بها البابا بندكتوس السادس عشر المجلس الحبري لتعزيز الكرازة الجديدة بالإنجيل؛ العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 34)

2 –العلاقة بين الإفخارستيا والكرازة الجديدة بالإنجيل وثمارها:

أ- إن المشاركة في إفخارستيا الأحد، بسماع كلام الله وتقديم ذبيحة الفداء وتناول جسد الربّ ودمه، تعمّقنا يوماً فيوماً في سرّ المسيح الذي يتجلّى فيه سرّ الله الواحد والثالوث: محبة الآب الشاملة، ونعمة الإبن الخلاصية، وعطيّة الروح القدس المحيية. هذه المشاركة في سرّ الإفخارستيا، المعروفة بالليتورجيا الإلهية، تدخلنا في سرّ الشركة ببعديها العمودي والأفقي: الإتحاد بالله، والوحدة مع جميع الناس. فالإفخارستيا تحقيق لهذه الشركة.

والمشاركة في إفخارستيا الأحد تشدّد إنتماءنا كأعضاء في جسد المسيح الذي هو الكنيسة، وتجعل منا مجتمعاً تسوده حضارة المحبة، ويعمل من أجل إحلال الأخوّة والعدالة والحرية والسلام، ويهدم أسوار التفرقة والإنقسام، ويزيل الظلم والإستبداد، ويكسر أغلال الأنانية والإنطواء على الذات .

كل مفاعيل المشاركة هذه هي الأهداف التي تصبو اليها الكرازة الجديدة بالإنجيل.

ب- الإفخارستيا روحانيةتشمل حياة الإنسان الخاصة والعامة، بالإضافة إلى كونها مشاركة في القداس وعبادة القربان الأقدس. الروحانية الإفخارستية سمّاها الرب يسوع في حديثه مع المرأة السامرية: “عبادة الله بالروح والحق”(يو 23:4) التي تعني، بحسب القديس بولس عبادة تغيّر طرق الحياة والتفكير: “لا تتمثّلوا بالعالم الحاضر، لكن تحوّلوا بتجديد طريقة تفكيركم، لكي تعرفوا ما هي إرادة الله، ما هو صالح وكامل ويرضي الله” (روم 2:12). هذه الروحانية كفيلة بإخراج المؤمنين من حالة العيش التي تضع الإيمان المسيحي على هامش الحياة، كما لو كان الله غير موجود. كما تخرج كل إنسان من حالة “الأطفال الذين تتقاذفهم أمواج المذاهب ويعبث بهم كل ريح”. (أفسس 14:4).

الكرازة الجديدة بالإنجيل تهدف إلى نشر هذه الروحانية .

ج- الإفخارستياثقافة من شأنها أن تطبع ثقافات الشعوب، بقيم الحقيقة والمحبة وحرية أبناء الله، بقيَم التفاني والبذل والعطاء في سبيل الأخوّة والخير العام ، بقيم الحوار والسلام واحترام كرامة الشخص البشري، وبأهمية الحقّ والعدل لقيام الحياة الإجتماعية وتوطيد أسس الحكم في والدولة. فالمسيح المتجلّي في سرّ الإفخارستيا هو حقيقة كل إنسان وحقيقة كل تاريخ البشر.

الكرازة الجديدة بالإنجيل ترمي إلى زرع خميرة الإنجيل في المجتمعات البشرية، لكي تطبع ثقافاتها وتغيّرها من الداخل، وفقاً لوصية القديس بولس: “إمتحنوا كل القيَم وتمسّكوا بالحسن”. (1 تسا 21:5)

د- الإفخارستيا مدرسة الأخلاقية الجديدةالقائمة على المحبة. عندما يشارك المسيحي في ذبيحة الصليب ويتناول جسد الرب ودمه، يتّحد بتقدمة المسيح ذاته كاملة، ويصبح مهيّأً ليحيا محبة المسيح ومستلزماتها الخلقية في كل عمل ومسلك ونشاط. وبما أنّ في هذه المشاركة وهذه المناولة نجد من يحبنا كما نجد من نحبه بدورنا. فالإفخارستيا التي لا نترجمها بأعمال محبة وبأخلاقية ومناقبية في التعاطي والممارسة هي مبتورة في ذاتها. ان زكا العشار، بعد أن استقبل يسوع في بيته، تحوّل داخلياً وقرر التصرّف بأخلاقية المحبة، والتزم بأن يعطي نصف أمواله للفقر
اء، وأن يردّ إلى الذين ظلمهم أربعة أضعاف. (راجع لو 1:19-10) (البابا بندكتوس السادس عشر: سرّ المحبة، 82،78،77،76).

3 –الارتباط بالحضور المسيحي في الشرق الاوسط:

إن المسيحيّين في لبنان وبلدان الشرق الأوسط أصحاب حضور ورسالة، ينطلقان من سرّ الإفخارستيا، وينتشران بالكرازة الجديدة بالإنجيل، على مثال الجماعة المسيحية الأولى، مع الكنيسة الناشئة: “كان جماعة الذين آمنوا مواظبين على تعليم الرسل وكسر الخبز والصلوات. وكانوا قلباً واحداً ونفساً واحدة. وكان كل شيء مشتركاً بينهم، ولم يكن فيهم محتاج” (أعمال 42:2؛ 32:4-34).

هدفت جمعية سينودس الأساقفة للشرق الأوسط، التي انعقدت في روما في تشرين الأول 2010، تمتين هذا الحضور المسيحي وابراز رسالة المسيحيين في بلدان الشرق الأوسط على مستوى الشركة والوحدة، وعلى مستوى الشهادة للمحبة.

انهم حضور سرّ المسيح الكلّي الذي هو الكنيسة. يعلنون إنجيل الأخوّة الشاملة بالمسيح، والبنوّة لله، إنجيل كرامة الشخص البشري؛ إنجيل المحبة والعدالة والحقيقة والحرية، إنجيل السلام. ليسوا أقلية عدديّة، بل هم كنيسة المسيح الحاضرة والفاعلة والشاهدة من خلالهم. يشهد التاريخ أنّ المسيحيين في هذه المنطقة العربية حققوا انجازات كبيرة: انشاء الكيان اللبناني والعيش الواحد بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين، المساهمة الفعّالة في الإدارة والسياسة العامة لدول المنطقة؛ قيادة حركات التحرر من الاستعمار؛ تحقيق النهضة الثقافية والفلسفية والأدبية وحفظ اللغة العربية من الاندثار؛ إنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز الإجتماعية والإنسانية؛ نشر الصحافة والرأي الحرّ والحداثة؛ تعزيز الحريات العامة وحقوق الإنسان الأساسية؛ المناداة بالديمقراطية وممارستها.

ان هذا المؤتمر القرباني الذي يجمع بين الإفخارستيا والكرازة الجديدة بالإنجيل، يذكّر المسيحيين أن حضورهم ورسالتهم في لبنان وبلدان الشرق الأوسط مرتبطان عضوياً بهما.

نأمل أن يبلغ المؤتمر هذه الغاية النبيلة.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير