بقلم الأب منتصر حداد
روما، الجمعة 18 نوفمبر 2011 (Zenit.org). – إبتداءً من احد البشارة بميلاد يوحنا المعمدان إلى اليوم الثاني من عيد الميلاد سوف نرى من خلال ما تخبرنا به نصوص الإنجيل، أموراً عظيمة تتحقق من خلال أمور بسيطة، من خلال ناس بسطاء عاشوا حياتهم قريبين مع الرب.. تلقي أناجيل هذه الفترة الأضواء على ما لا معنى له وما لا أهمية له في أعين الناس… ولكن، هل يا ترى هنالك شيء في الحياة لا أهمية له، كل شيء في الحياة هو مهم ويجب أن يكن موجوداً ليسند الحياة ويعطي لها نكهة خاصة، كل إنسان هو مطيبة من المطيبات التي توضع على طبخة الحياة لتعطي لها نكهة خاصة، كل إنسان مهما كان صغيراً هو مدعو لان يضع بصمته في الحياة، وإلا فوجوده عبثي ولا معنى له….
شابة صغيرة بسيطة إسمها مريم، فتاة من الفتيات اللواتي كنَّ ينتمين إلى مجتمع اليهود الذي فيه كانت المرأة في ذلك الزمان درجة ثانية أو أقل…. من الناصرة، قرية ليست بأهمية تجاه أورشليم المدينة العظيمة التي فيها بُشّرَ بمولد يوحنا المعمذان، هذا يعني أن كل شي هو مهم مهما كان صغيرً ومن الممكن عمل أمور عظيمة أنطلاقاً من مباديء صغيرة… ما يريده الله من الإنسان، فقط ان يستقبله بفرح وبساطة، ويحاول عيش دعوته فيفهم معنى نعمة الرب التي يقبلها منه…
كلنا نريد ان نعمل أموراً عظيمة، وكأن الإنجاز الحقيقي في هو الأمور العظيمة فقط… ولكن، ننسى بأننا علينا أن نكون أمناء على القليل حتى نكون أمناء على الكثير، أي أن ننجح في الأمور الصغيرة ومن ثم نتدرج نحو الأمور الكبيرة والخطيرة… فما فائدة عمل خير كبير خالي من الحب وخالي من الروح… “الأم تيريزا تقول “ليس الإنجاز أن نعمل أمورا عظيمة، لكن ان نعمل أمواً صغيرة بحب كبير هذا هو أعظم إنجاز”…
في عيد البشارة بميلاد يسوع، نحن مدعوون إلى عيش الإصغاء لصوت الرب من خلال وضع ثقتنا به، وبتسليم ذواتنا له في حياتنا، ومن خلال الـ (نعم) التي نقولها بأمانة وثقة…. مريم تصغي، إلى كلمة الرب، فتتجسّد هذه الكلمة في اعماقها لتكون إنساناً، لتكون واقعاً متجسداً في حياتها….. هي تصلي إلى الرب وصلاتها هذه تصبح واقعاً معاشاً بحق…. مريم في الحقيقة، تحبل بأذنها، كما نصلي في الطقس السرياني (من اذنها قبلته وفي بطنها حملته) فهي تصغي لصوت الرب الذي تسمعه في صلاتها، صوت الحب والفرح، فتدخل الكلمة (كلمة الرب) يسوع هو الكلمة التي لفظها الرب، فتدخل الكلمة إلى أعماقها فتتجسد في أحشائها، أي في كيانها، أي تعيشها وتصليها، فيتحول إلى ثمرة تنضج في داخلها ومن ثم تعطيه للعالم واقعاً حياً، شخصاً، إنساناً هو في الحقيقة أصدق كلمة ظهرت وقيلت في التاريخ (يسوع، عمانوئيل، الله معنا)….
من مميزات الإنسان المسيحي، إنه الإنسان الذي يصغي، والذي يصغي معناه انه يتأمل بعمق، وهذا ما رأيناه في الاحد الماضي مع زكريا، اصبح اخرساً، لكي يعرف ان يتأمل، ويدخل الى أعماقه… فيسمع الأنسان الكلمة ويصغي إليها، فتدخل الكلمة في أحشائه التي تستقبلها ويتفاعل معها، ولا تبقى هذه الكلمة مُلكاً له فقط، بل يهديها أيضاً للآخرين معلنا البشارة السارة لهم، وإلا كانت حركة انانية لا تعبر عن موقف الإنسان المؤمن، وتصبح الصلاة حركة لا معنى لها إن لم تتجسّد في واقع حقيقي يتحول هو الآخر إلى صلاة…. لذلك علينا أن نصغي ونستقبل الكلمة ومن بعد ذلك نعطيها للعالم في أفعال حب تعبر عن هذا الروح الحقيقي المتفاعل فينا… الله يريد ان يكون في العالم من خلال إنسان… صحيح إن بشرى التجسد فريدة، ولكنها ستتكرر في كل مرة ندخل في حوار مع الله لنفهم إرادته، حوار مبني على التواضع والخضوع التام….
من الضروري اليوم أن تتحول لقاءاتنا كلها اليوم إلى مناسبة لتبادل الـ (نعم) المريمية، ولنتبادل خبرات إيماننا ورجائنا، خبرات آلامنا ومعاناتنا، تعلمنا مريم اليوم أهمية الإيمان والثقة والمحبة المتجسدة بالخدمة هذه المصطلحات التي أصبحت جوفاء وفارغة من معناها، حتى كلمة (الله) باتت كلمة فارغة من معناها، لأننا أصبحنا لا نؤمن بها وحتى وإن نادينا بها فنحن لا نطبقها، وحتى وإن جاء احد ونادى بها اليوم ننعته مباشرة بالنفاق والدجل… علينا أن نعيد لهذه المصطلحات بهائها السابق مرة أخرى فتكون واقعاً حيا معاشاً بحب….
الله يدعونا ويتكلم معنا اليوم هنا في هذا المكان بالذات، إنه يرسل ملاكه ليقول لكل واحد منا: “السلام عليك أيها الممتلئ نعمةً، الرب معك، مبارك أنت بين الناس، ومباركة الثمار التي ستحملها للناس بعد هذا اللقاء بيني وبينك” فهل نحن واعين لحقيقة هذه الدعوة وهذه الصلاة؟ دعوة تجسد يسوع في كل واحد منا، هل نستطيع ان نقبل الكلمة (يسوع) في أحشائنا ومن ثمة نلده للعالم؟ لن نستطيع ان نكون كلنا رجالاً ونساءً أماً حقيقية ليسوع، إن لم يكن كل واحد منّا أماً، فلن نشعر بالحقيقة بأهمية أي مولود جديد في العالم، لأن الأم تتعب وتحمل متألمة فرحة طفلها أشهر طويلة وليالي صعبة منتظرة برجاء من تعطيه ذاتها، ومن تعطيه للعالم إنساناً حقيقياً… فلنتأمل ولنصلي ولنستقبل الكلمة، ولنحمله في أحشائنا فيعشعش في كياننا، ولنلده إلى العالم، فيكون بالحقيقة عمانوئيل (الله معنا)….