بكركي، الاثنين 19 ديسمبر 2011 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بمناسبة تدشين كنيسة الصرح البطريركي في بكركي نهار الأحد 18 ديسمبر 2011.
* * *
1. على صخرة إيمان بطرس “بالمسيح ابن الله الحيّ” بنى الربّ يسوع كنيسته، لتكون جماعة الإيمان والرجاء والمحبة. وشبّهها ببيت، هو “بيت الله”(1كور3: 9) يكون فيه الربّ يسوع “حجر الزاوية”(متى21: 42)، والمؤمنون به إيمان بطرس “حجارة حيّة وهياكل روحيّة”(1بطرس2: 5). هذه هي الكنيسة التي ننتمي إليها، وهي كنيسة السرّ والشركة والرسالة، التي أعلنها ليوحنا صوتٌ عظيم من السماء يقول: هوذا مسكن الله مع الناس. يسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله معهم يكون لهم إلهاً”(رؤيا 21: 3). وفي هذا الأحد السابق للميلاد تذكر الكنيسة نسب يسوع المسيح إلى العائلة البشرية، للدلالة أن ابن الله صار إنساناً ليقيم بين الناس لخلاصهم، وليقيم شركة لا تنفصم بين الله وكل إنسان وبالتالي مع الجنس البشري بأسره.
2. يسعدنا أن ندشّن اليوم هذه الكاتدرائيّة البطريركيّة في زمن الميلاد، التي تحمل بعد تجديدها، جمال وجه الكنيسة التي بناها الربّ يسوع على صخرة الإيمان. وقد شاء أن يقدّم هذا الترميم سعادة السفير جيلبير شاغوري وشقيقه حضرة السيد رونالد. فنحن نعرب لهما عن عميق الشكر مع الدعاء إلى المسيح الربّ أن يُولَد في قلب عائلاتهم، ويزرعَ فيها الحبَّ والخير والسلام، وأن يجعلَ من هذه العائلة كنيسةً بيتيّة، ويشعَّ منها الإيمانُ المسيحي وترتفعَ صلاةُ الشكر والتسبيح لله الذي يبارِك أعمالَهم وشركاتِهم ونشاطاتهم في لبنان والخارج. وأُعرب عن تقديري لحضرة المهندس شربل حدّاد الذي تولّى مع معاونيه أعمالَ الترميم والتجديد من المدخل الرئيسي الى كابلاّ القديسة رفقا فإلى هذه الكاتدرائية. كافأه الله بمزيدٍ من الخير والنجاح. وأودُّ بالمناسبة أن أشكر أيضاً الذين أضافوا زينة الميلاد: في الساحة الخارجية حضرة السيد سليم صفير رئيس مجلس إدارة بنك بيروت وزوجته السيدة ماري كلود بتقديم شجرة الميلاد الشاهقة نحو السماء كدعوةٍ لنا للإرتقاء الى قمم الروح، وفي الباحة الداخليّة حضرة السيد انطوان رزق وزوجته السيدة ماريز بتقديم مغارة الميلاد الجميلة مع شجرة العيد في الطابق الأعلى، علامةَ سُكنى الله معنا، بالابن الوحيد الذي يقول لنا به كلّ شيء عن سرّ الله والإنسان والتاريخ.
3. إنّ جمال هذه الكنيسة، الذي كشفه ترميمُها بما فيه من سخاء، يعكس جمال كنيسة المسيح التي هي جسده، بل هي، كما يقول القديس اغسطينس، المسيح الكلّي. الجمال الظاهر يعكس قداستها، ويدعونا في زمن ميلاد الربّ، المخلِّص والفادي، لتحقيق ولادةٍ جديدة فينا بنعمة الروح القدس، فننتمي فعليّاً الى الكنيسة التي هي سرٌّ وشركة ورسالة، شبّهها المسيح بالكرمة وأغصانها قائلاً: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”(يو15: 5).
4. إننا ننتمي الى الكنيسةِ – السرّبالإيمان والمعمودية، إيمانبالمسيح فادياً ومخلّصاً وحيداً؛ ومعمودية الولادة الثانية كأبناء لله بالروح القدس، لحياة جديدة، جعلتنا، على ما يقول القديس اغسطينس، “ليس فقط مسيحيين بل المسيح بالذات”، وقد أصبحنا معه هيكلاً روحياً يملأه حضور الله بفضل اتحادنا بيسوع المسيح وانقيادنا له، مثل هذه الكنيسة وحجارتها الجميلة في اتحادها ووحدتها وتكاملها. وفيما يظنّ البعض من الناس أنّ الكنيسة محصورة برجال الدّين، أكّد لهم البابا بيوس الثاني عشر، ونحن معه: “ينبغي أن تدركوا بوضوح أيها المؤمنون، أنّكم لا تنتسبون فقط الى الكنيسة، بل انتم الكنيسة وخطُّها الأمامي”(العلمانيون المؤمنون بالمسيح،9). لا يكفي أن تكون الكنيسة جميلة بحجارتها وهندستها وأثاثها، بل ينبغي أن تكون جميلة بمؤمنيها، وهي تمتلك الوسائل لهذا الجمال أعني: الإنجيل والتعليم، نعمة الأسرار، وهبة الروح القدس، محبة الله المسكوبة في القلوب.
إنّ كثيرين من المسيحيين فقدوا جمالهم هذا بجهلهم للإنجيل وتعليم الكنيسة، وعدم ممارستهم للأسرار ولاسيّما سرّ القداس يوم الأحد وسرّ التوبة بالإعتراف والمصالحة، وعيشهم بقلوب خالية من المحبة.
فإنْ كان الجمالُ وحده يخلّص العالم، على ما قال الكاتب الروسي المعروف دوستويفسكي، فليعلم المسيحيون أنّ الإنجيل وتعليم الكنيسة ونعمة الأسرار وعطية الروح القدس إنّما تجعلهم جمالاً، ليجمّلوا عالمهم في حياتهم الزوجية والعائلية، وفي ممارستهم الشؤون الزمنية: جمال الثقافة والعلم، جمال السياسة والإقتصاد، جمال الإعلام والإعلان، وجمال التجارة وتعاطي الأعمال، هذا الجمال وحده يخلّص لبنان ومجتمعه، وكلّ وطن ومجتمع آخر تتواجدون فيه أيّها المسيحيون. فاثبتوا فيَّ الكنيسة – السرّ متّحدين بالمسيح، إتحاد الأغصان بالكرمة، فهو يناديكم:”أثبتوا فيَّ وأنا فيكم”(يو15: 4).
5. وننتمي إلى الكنيسة – الشركةالتي هي اتحادٌ بالمسيح ووحدةٌ بين المسيحيين. نجد صورتها في هذه الكنيسة المؤلَّفة من حجارة متنوّعة والتي تؤلّف هيكلاً واحداً. كما نجدها في الكرمة الواحدة بأغصانها المتنوّعة: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”. لكنّ كنيسة المسيح هي كنيسة جميع الشعوب، ما يعني أنّها مدعوّة لتُشرِكَ جميع الناس في الإتّحاد بالله وفي وحدة الجنس البشري أيّاً كان دينهم وعرقهم وثقافتهم. إنّ الشعار الذي اتخذته لخدمتي البطريرك
ية: “شركة ومحبة” إنما يهدف إلى العمل مع إخواني السادة المطارنة، والكهنة والرهبان والراهبات والمؤسَّسات، وبخاصة معكم أيها المسيحيون العائشون في العالم، من أجل بناء الشركة ببعدَيها المتلازمَين والمتكاملَين: الاتحاد بالله عمودياً، ووحدة الجماعة البشرية أفقياً. ولا مجال لهذا الاتحاد ولهذه الوحدة من دون المحبة لله وللناس. وأقول للمسيحيين بنوع خاص: هذه هي رسالتكم، وهذا هو مبرِّر وجودكم، مهما كانت الصعوبات، ومهما كان الرفض للشركة.
6. واننا ننتمي الى الكنيسة – الرسالة التي تنبع من الكنيسة – السر والكنيسة – الشركة، أي من الاتحاد بالله والوحدة مع الناس. الرسالة المسيحية التزام فردي وجماعي. من تشبيه الكنيسة بالكرمة والاغصان، يؤكّد الرب يسوع الالتزام بالرسالة المسيحية إفرادياً:إذ يقول: مَن يثبت فيَّ وأنا فيه، يأتي بثمر كثير”(يو15/5)، وجماعياً بقوله: بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً… فأنا اخترتكم وأقمتكم لتمضوا أنتم أيضاً وتأتوا بالثمار، وتدوم ثماركم”(يو 15: 2 و 16). رسالتكم أيها المسيحيون هي أن تطبعوا بقيم الانجيل الشؤون الزمنية: الثقافة والسياسة والاقتصاد، التشريع والقضاء، ألإدارة والأمن، وكلَّ المهن والفنون. رسالتكم أن تزرعوا الرجاء في القلوب. يسوع المسيح هو رجاء جميع الشعوب، وهو الانجيل الحي والشخصي أي البشرى الجديدة حاملة الفرح لكل إنسان، التي تُعلنها الكنيسة كل يوم وتشهد لها امام الجميع(العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 7).
7. عندما نقول “الكنيسة السر والشركة والرسالة”، لا نعني الطوائف المسيحية، بل سرّ الله بين البشر ومعهم، أي ملكوت الله الذي يبدأ في هذا العالم ويكتمل في العالم الآتي. وكمجتمع منظّم بعنصرَيه الإلهي والبشري، الكنيسة هي المثال لكلّ مجتمع بشري، وبالتالي لمجتمعنا اللبناني والوطن.
فالكنيسة – السرّ توحي الانتماء الى الوطن بحكم المواطنة التي تُلزم الجميع بالولاء للوطن لا للطائفة. إنَّ إهمال الدولة لواجبها الاساسي في تأمين حاجات المواطنين،المعيشية من جهة، وممارسة السياسيين الطائفية من جهة ثانية، تحملان المواطن ليكون مواطناً في طائفته ومذهبه، ويُهمل مواطنيته الوطنية. فإذا بالطوائف تتسابق الى اجتذاب المواطنين، وتقديم بعض المساعدات لهم، وكأنها هي الدولة. وتقتضي المواطنة المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع، عبر مؤسسات دستورية قادرة على نشر عدالة سليمة ومنصفة.
8. وعلى المستوى الوطني، توحي الكنيسة – الشركة بالتعددية التي تقتضي العمل بمبدأ المشاركة الفاعلة والمتوازنة من قِبل جميع الطوائف والمذاهب والأفراد في الحكم والإدارة، من دون تحييدٍ لدور أحد أو إسقاطه من الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، ومن دون امتيازات لأحد أو لفئة. كما أنها توحي بالعبور من الصراع المفتوح إلى قدرة التفاهم، ومن الاهتزازات الى الاستقرار والاستمرار وانتاج مستقبل جديد، في إطار التمسّك بقيَمنا اللبنانية التي تجمّعت لدينا عبر ممارستنا للعيش الواحد معاً. ولقد ذكّرَنا الارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” أنَّ مكوّنات المجتمع اللبناني من “مسيحيين ومسلمين وموحِّدين دروز هي ثروة وفرادة وعقبة في آن. غير أنَّ إحياء لبنان، بالنسبة إليهم جميعاً، إنما هو مهمّة مشتركة”(فقرة 1). وبفضل ذلك نقرأ أيضاً في الإرشاد عينه أن “لبنان بلدٌ طالما اتجهت إليه الابصار”(فقرة 1).
9. والكنسية الرسالة توحي بلبنان – الرسالة التي ينادي بها الجميع. ما يعني أن للبنان قيمة مُضافة يقدّمها لأبنائه ولدول العالم، هي أنَّ المسيحيين والمسلمين في لبنان إلتزموا حقوق الانسان والديمقراطية والحضارة الحديثة، وحملوها إلى المشرق العربي. حافظوا على التعددية والتنوّع بتفاعلية، بحيث أن الشخصية المسيحية متأثّرة بالشخصية الإسلامية، والشخصية الإسلامية متأثّرة بالشخصية المسيحية. بفضل هذه الرسالة، أُعطيَ لبنان أوصافاً وتسميات متعدّدة من شخصيات مشرقية وغربية من مثل: لبنان رئة الحرية والحداثة، لبنان النموذج الحضاري، لبنان حاجة العرب، لبنان أقلّ المجتمعات اللاإنسانية في العالم. ونضيف إليها كلمة البابا الكبير الطوباوي يوحنا بولس الثاني: “لبنان نموذج للشرق وللغرب”.بالنسبة للشرق لبنان نموذج في التعددية والتنوّع والعيش معاً بالوحدة والمساواة، وبالنسبة للغرب يشهد لبنان أن الاسلام دينُ تعايش، كما يساهم لبنان بتطوير علاقات العالم العربي بالعالم الغربي.
10. احتفالنا اليوم معكم بترميم كاتدرائية الكرسي البطريركي وتجديدها، إنما هو لإبراز معنى الكنيسة – السرّ والشركة والرسالة، على المستويين الروحي والوطني. نسأل المسيح الرب الذي أسّسها بتجسّده وموته وقيامته وأحياها وأرسلها بقوة الروح، لتكون أداة خلاص للعالم أجمع، أن يُجمّلها دوماً بمؤمنين ومؤمنات أبرار، يعكسون وجهها في العائلة والمجتمع والدولة. لمحبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس كلُّ مجدٍ وإكرام الآن وإلى الأبد، آمين.
راجع روحيه ديب، لبنان المستقر، صفحة 183-184.