روما، الخميس 17 مايو 2012 (ZENIT.org)- ننشر في ما يلي المقابلة العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس نهار الأربعاء 16 مايو 2012، والتي تكلم خلالها عن الصلاة في رسائل القديس بولس.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
تأملنا في التعاليم الأخيرة بالصلاة في أعمال الرسل، وأريد اليوم أن أبدأ بالكلام عن الصلاة في رسائل القديس بولس، رسول الأمم. أود، وقبل كل شيء، أن أشير أنه ليس من قبيل الصدفة أن تُستهل الرسائل وتختتم بعبارة صلاة: في البداية، فعل الشكر والتمجيد، وفي الختام، الدعاء لكي تقود نعمة الله سبل الجماعات التي يتوجه اليها برسالته. فبين عبارة الإفتتاح: “أبدأ بشكر إلهي بيسوع المسيح” (روما 1،8)، والدعاء الختامي: “عليكم جميعًا نعمة الرب يسوع!” (1 كور 16، 23) يظهر مضمون رسائل القديس بولس. تكشف صلاة القديس بولس عن غنى كبير بالأشكال يجعلها تتنقل من فعل الشكر الى المباركة، ومن التمجيد الى الطلب والشفاعة، ومن النشيد الى الإلتماس: مجموعة من العبارات التي تظهر تدخل الصلاة في جميع مواقف الحياة، أشخصية كانت أو تخص الجماعات التي كان يتوجه اليها برسائله.
أما العنصر الأول الذي يريدنا الرسول أن نفهمه فهو أنه لا يمكننا أن نعتبر الصلاة كعمل جيّد وبسيط نتممه لله، كأعمالنا الخاصة، بل هي قبل كل شيء عطية، وثمرة الحضور المحيي للآب وليسوع المسيح فينا. هكذا يكتب القديس بولس في رسالته الى أهل روما: “وكَذلِكَ فإِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف”(روما 8، 26). ونحن نعلم مدى صحة كلمة القديس بولس هذه: ” لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب”. نحن نريد أن نصلي، ولكن الله بعيد، نحن لا نملك الكلمات أو الأسلوب للتكلم مع الله، ولا حتى التفكير. يمكننا فقط أن ننفتح، ونضع وقتنا بين يدي الله، وننتظر أن يساعدنا بنفسه لندخل في حوار حقيقي.
يقول بولس الرسول: هذا النقص في الكلمات، والغياب الكامل للكلمات، ولكن أيضًا هذه الرغبة في إنشاء تواصل مع الله، صلاة لا يفهمها الروح القدس فحسب بل يحملها ويوصلها الى الله. يصبح ضعفنا هذا بواسطة الروح القدس صلاة حقيقية، وتواصل حقيقي مع الله. إن الروح القدس هو تقريبًا المترجم الذي يفهمنا، كما الله، ما نود قوله.
نختبر في الصلاة، أكثر من الأبعاد الأخرى لوجودنا، ضعفنا، وفقرنا، وطبيعتنا التي خلقنا بها، لأننا نقف أمام عظمة الله وقدرته. وكلما تقدمنا في الإستماع والحوار مع الله لتصبح الصلاة نفس روحنا اليومي، كلما أدركنا أكثر معنى حدودنا، ليس أمام الحالات اليومية المحددة فحسب، بل أيضًا في علاقتنا مع الرب. هذا ينمي بنا الحاجة الى الوثوق به، والإستسلام له أكثر فأكثر، ونفهم أننا “لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب” (روما 8، 26).
إن الروح القدس هو الذي يساعدنا في ضعفنا، وينير عقلنا، ويدفئ قلبنا، ويحثنا على التوجه نحو الله. بالنسبة إلى القديس بولس، فالصلاة هي عمل الروح في بشريتنا، هو الذي يتحمل ضعفنا ويحولنا من أناس متشبثين بالوقائع المادية إلى أناس روحيين. يكتب القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثس: “ولَم نَنَلْ نَحنُ رُوحَ العالَم، بل نِلْنا الرُّوحَ الَّذي أَتى مِنَ الله لِنَعرِفَ ما أَنعَمَ اللهُ بِه علَينا مِنَ المَواهِب. وإِنَّنا لا نَتَكلَّمُ علَيها بِكَلامٍ مَأخوذٍ مِنَ الحِكمَةِ البَشَرِيَّة، بل بِكَلامٍ مَأخوذٍ عنِ الرُّوح، فنُعبِّرُ عنِ الأُمورِ الرُّوحِيَّةِ بِعِباراتٍ رُوحِيَّة” (1 كور 2، 12- 13). إذًا فبسُكناه في ضعفنا البشري، يغيرنا الروح القدس، ويشفع بنا، ويرفعنا الى الله. (راجع روما 8، 26).
يتحقق اتحادنا بالمسيح من خلال حضور الروح القدس، لأنه روح ابن الله الذي به أصبحنا أبناء له أيضًا. يتحدث القديس بولس عن روح المسيح (راجع روما 8، 9)، وليس فقط عن روح الله. هذا واضح: إذا كان المسيح هو ابن الله، فروحه هو روح الله أيضًا؛ إذا روح الله أي روح المسيح كان قريبًا منا في الماضي من خلال ابن الله وابن الإنسان، فروح الله أصبح أيضًا روحًا بشريًّا يلمسنا؛ يمكننا أن ندخل في شراكة الروح. فكأنه يقول بأن الله الآب أضحى ملموسًا من خلال تجسده بالإبن، ولكن أيضًا روح الله يظهر في حياة يسوع، يسوع المسيح، وأعماله، هو الذي عاش، وصُلب، ومات وقام. يذكرنا القديس بولس بأنه: ” لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: يَسوعُ رَبٌّ، إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس” (1 كور 12، 3). إذًا الروح القدس يوجه قلبنا نحو يسوع المسيح ” فما نحن نحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِينا” (غلا 2، 20). في تعاليمه حول الأسرار، وبما يخص سر القربان المقدس، يؤكد القديس أمبروسيوس: ” من يسكر بالروح، يتجذر في المسيح” (5, 3, 17 : PL 16, 450).
أود الآن أن أسلط الضوء على ثلاث نتائج تنعكس على حياتنا المسيحية، إن جعلنا روح المسيح يتصرف من خلالنا كمبدأ داخلي لجميع أعمالنا، وليس روح العالم.
مع الصلاة التي يقودها الروح القدس، نتخلى ونتفوق على أي نوع من أنواع الخوف أو العبودية، بعيشنا الحرية الحقيقية لأبناء الله. من دون الصلاة التي تغذي يوميًّا وجودنا بالمسيح، في علاقة حميمة متزايدة، نجد أنفسنا في الحالة التي وصفها القديس بولس في رسالته الى أهل روما: الخير الذي نريده لا نفعله والشر الذي لا نريده نفعله (راجع روما 7، 19). هذا هو التعبير الذي يشير الى كراهية الكائن ا
لبشري، وتدمير حريتنا، وذلك لأننا موصومون بالخطيئة الأصلية: نحن نريد الخير الذي لا نفعله، ونفعل ما لا نريده أي الشر.
يريد القديس بولس أن يُفهمنا بأنه في المقام الأول ليست إرادتنا هي التي تحررنا من هذه الشروط، ولا القانون، ولكن الروح القدس بنفسه. وبما أنه “وحَيثُ يَكونُ رُوحُ الرَّبّ، تَكونُ الحُرِّيَّة” (2 كور 3، 17)، نختبر بالصلاة الحرية التي يعطينا إياها الروح: حرية حقيقية، وهي حرية تقابل الشر والخطيئة بالخير والحياة، في سبيل الله. يكمل القديس بولس قائلا إن حرية الروح لا يتم تحديدها أبدًا، لا بالفسق، ولا حتى بإمكانية اختيار الشر، وإنما من خلال “ثَمَر الرُّوح الذي هو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ” (غلا 5، 22). هذه هي الحرية الحقيقية: أن يتمكن الإنسان حقًّا من اتباع رغبته في الخير، والفرح الحقيقي، والشراكة مع الله من دون أن تستعبده الظروف التي تجذبنا نحو اتجاهات أخرى.
تظهر نتيجة ثانية في حياتنا عندما ندع روح المسيح يعمل فينا: تصبح العلاقة مع الله بنفسها عميقة جدًّا الى درجة أنها لا تتأثر بأي واقعة أو حالة. بذلك نحن نفهم بأنه مع الصلاة لم نُحَرَّر من التجربة والمعاناة، ولكن يمكننا أن نخوض ذلك متحدين بالمسيح، بهدف المشاركة في مجده (راجع روما 8 ،17). في كثير من الأحيان، نسأل الله في صلاتنا أن يخلصنا من الألم الجسدي أو الروحي، ونفعل ذلك بثقة كبيرة. ومع ذلك، فإننا كثيرًا ما نشعر بأن لا أحد يصغي إلينا وتوشك عزيمتنا أن تثبط ولا نستمر في المثابرة. في الواقع، ليس من صرخة إنسانية لا يسمعها الله، ومن خلال الصلاة المستمرة والمخلصة، نفهم تمامًا مع القديس بولس أن “آلام الزمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلى فينا” (روما 8، 18).
لا تجنبنا الصلاة التجارب والمعاناة؛ بل على العكس، كما يقول القديس بولس نحن “نئن في الباطن منتظرين افتداء أجسادنا” (روما 8، 24)؛ هو يقول بأن الصلاة لا تجنبنا المعاناة ولكن تسمح لنا بعيشها وبخوضها مع قوة جديدة، وبالثقة نفسها كيسوع الذي، بحسب الرسالة الى العبرانيين “هو الذي في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والإبتهال بصراخ شديد ودموع ذوارف الى الذي بوسعه أن يخلصه من الموت، فاستُجيب لتقواه”. (5، 7). إن استجابة الله الآب لإبنه، لصرخاته ودموعه، لم تكن تحريرًا له من المعاناة، والصليب، والموت، بل هي استجابة أكبر من ذلك، إستجابة أعمق بكثير؛ من خلال الصليب والموت، استجاب الله مع قيامة ابنه، بحياة جديدة. تقودنا الصلاة التي يقودها الروح القدس نحن أيضًا لنعيش كل يوم طريق حياتنا مع هذه الآلام والمعاناة، في الرجاء الكامل، والثقة بالله الذي يستجيب كما استجاب لإبنه.
نقطة ثالثة، تنفتح صلاة المؤمن أيضًا على أبعاد البشرية وكل الخلق، “فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر تجلّي أبناء الله” (روما 8، 19). هذا يعني بأن الصلاة المدعومة من روح المسيح الذي يتحدث الى أعماق قلوبنا، لا تبق أبدًا منغلقة على نفسها، ليست أبدًا مجرد صلاة بالنسبة إليّ، ولكنها تتوسع لتشرك معاناتنا اليومية بمعاناة الآخرين. تتحول الى شفاعة للآخرين، وتحررني من نفسي، وتصبح مصدر رجاء للخليقة كلها، عبارة عن محبة الله هذه التي أفيضت في قلوبنا من خلال الروح الذي وهب لنا (راجع روما 5 ،5). هذه هي بالضبط علامة الصلاة الحقيقية، التي لا تنتهي فينا بل تنفتح على الآخرين، وبذلك تحررني وتساهم في فداء العالم.
إخوتي وأخواتي الأعزاء، يعلمنا القديس بولس أنه بصلاتنا يجب أن ننفتح على حضور الروح القدس، الذي يصلي فينا بأنّات لا توصف، ليقودنا الى الإتحاد بالله بكل قلبنا وكياننا. يضحي روح المسيح قوة صلاتنا “الضعيفة”، ونور صلاتنا “المظلمة”، ونار صلاتنا “القاحلة”، ويعطينا الحرية الداخلية الحقيقية، ويعلمنا أن نعيش متخطين تجارب الوجود، واثقين بأننا لسنا وحدنا، فاتحًا لنا آفاق الإنسانية والخليقة التي “تئن الى اليوم من آلام المخاض” (روما 8، 22). شكرًا.
* * *
نقلته من الفرنسية الى العربية نانسي لحود – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية