<p>فقبل عام في مثل هذا النهار، وفي أول أيام زيارته التاريخية الى لبنان، وقع البابا – السابق – أو الفخري – بندكتس السادس عشر هذا الارشاد في كنيسة القديس بولس في حريصا، وصفقنا كثيراً بعدما استمعنا الى أول عظات البابا في لبنان، حيث تحدث عن الحرية الدينية التي صادق عليها الامبراطور قسطنطين ابن الملكة هيلانة التي وجدت الصليب، في القدس، وقال البابا وقتها، ان ما يحتاجه الشرق اليوم – والمسيحيون فيه على وجه الخصوص هو الحرية الدينية. وفي الارشاد الموقع يقول: ” ان الحرية الدينية هي تاج الحريات جميعها “. الا اننا وبعد عام، نقف عند مقولة أخرى في الارشاد ألا وهي ” ان الشرق الأوسط – بدون – أو بعدد قليل – من المسيحيين ليس الشرق الأوسط “. لماذا نتذكرها اليوم؟ لأنّ أحوالاً كثيرة تغيرت وتبدلت منذ عام الى اليوم، وصار الشرق أكثر فأكثر بعدد أقل اقل من مسيحييه. ونقول يا الهي! أكل هذا حدث في عام واحد؟ نعم.
فعلى مستوى الكنيسة الجامعة – احتلت سنة الايمان جلّّ المواضيع، وهي التي أعلنها البابا في اكتوبر العام الماضي، وتنتهي في نوفمبر القريب. وفي ثاني أشهر السنة، أعلن البابا بندكتس مفاجأته للعالم أي قراره بالتنازل عن قيادة السفينة. وأتى البابا فرنسيس، مذكراً الكنيسة بواجب الاعتناء بالفقراء، وان تكون هي فقيرة، وأن يكون التواضع سمة الخدام.
لكن الشرق الأوسط، الذي هو جوهر الارشاد، لم يمنح لسكانه هدوءاً وسكينة لكي يفكروا بطرق النزول بالارشاد الى الشارع ، والى حيّز التطبيق، الى جانب الحث على قراءته وترجمته وتوزيع نسخه. فضاع صوت الارشاد وسط ضجيج أصوات أقدام اللاجئين والمهجرين وأنين الطائرات التي نقلت عشرات الألوف من أبناء الشرق، ومن بينهم ألوف مؤلفة من المسيحيين الذين يحثهم الارشاد على ” البقاء ” في الشرق، وعلى الاستمرار بإغنائه بالفكر والعلم والتواضع. وضاع الارشاد وسط طبول الحرب التي عادت لتقرع وسط أصوات الترنيم والصلاة للبابا “فرنسيس” وكل من لبى نداءه للصوم والصلاة من أجل اسكات تلك الطبول… وسكت بعضها والحمد لله .
ووسط هذا الضجيج المكثف. ماذا تُرانا نعمل بالإرشاد ؟ وهو ثمرة لاجتماعات ودراسات وأخذ وعطاء بين الفاتيكان وكنائس الشرق. مع خبراء محليين وأجانب، حول “مصير مسيحي الشرق وهل يُسهم ارشاد – بمئة صفحة- بتحديد مسارهم ومصائرهم؟
علينا الاعتراف هنا، انه كنسياً مشرقياً، لم ينل الارشاد كثيراً من الوقت للتوقف والتفكير. جرت بعض احتفاليات وتقديمات للارشاد، واذكر منها واحدة في لبنان مع بطاركة الشرق وأساقفته، بدون تغطية اعلامية. وثانيها في الأردن حيث تبنى المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام بالتعاون مع المعهد الملكي للدراسات الدينية وجمعية الكاريتاس احتفالية التقديم الرسمي الاسلامي المسيحي للوثيقة، غير ذلك أذكر مساهمة الكاريتاس بتوزيع نسخ عديدة للإرشاد، وكذلك امانة المدارس المسيحية في القدس وزعت منه نسخاً عديدة. وقد أجرى موقعنا “أبونا ” على حسابه على الفيسبوك استفتاء قبل ايام ، عمّن قرأ الارشاد أو اطلع عليه ، فكانت الاجابات بمجملها سلبية للغاية ، فشبابنا لم يسمع به … ولم يقرأه … ولا يعيره أدنى انتباه . واني أكاد أقول مع تواضع هذه المبادرات ان رسالة الارشاد لم تصل، والادهى من ذلك ان كنائس الشرق لم تعطه حيّزا كافيا ومنصفا.
فضجيج الاحداث كان هو الأقوى. وفي الوقت الذي يحاول الارشاد الدفاع عن حضور مسيحيي الشرق ورفده بطاقات عمل جديدة، أصبح مسيحيو الشرق، وسط تنامي الأحقاد والحركات المتطرفة، يبحثون اما عن مهرب، أو عن وجود فحسب. ولنا في ما حدث في مصر من هدم للعديد من الكنائس في يوم واحد خير دليل على نتائج نموّ الأحقاد الدينية والسياسية . هذا فضلاً عمّا يحدث في سوريا الى اليوم. فهنالك مطرانان ما زالا رهن المجهول والاختطاف. وهنالك قرى مسيحية قد كُسرت صلبانها وتماثيلها. ولنا في معلولا المكسور صليبها في عيد الصليب خير مثال على ان المعركة ما عادت حول ” نوعية الحضور ” الذي يقدمه مسيحيو الشرق… بل حول بقائهم على الاقل موجودين في بلدانهم … وعلى قيد الحياة.
بعد عام من التوقيع، والمتزامن مع دعوة اردنية لا سابقة لها ، الى مؤتمر خاص حول “التحديات التي تواجه المسحييين العرب”، نظرا للظروف الي يمرون بها، أستذكر ما قاله المطران غريغوريوس ابراهيم غداة زيارة البابا الى لبنان، في مقابلة مع وكالة زينيت، اذ قال معلقاً على توقيع الارشاد الرسولي: ان مضمون الارشاد علامة انتصار للرجاء والأمل في حياة المسيحيين في الشرق الأوسط. تماماً كما شاهد قسطنطين رؤية الصليب وسمع صوتا يقول له: “بهذه العلامة ستنتصر”.
وقع البابا الارشاد … وذهب الى صومعته للصلاة والتعبد.
وعلق المطران غريغوريوس… وذهب الى حيث أراد خاطفوه.
وبقي الارشاد … علامة للأمل.
فهل سنحتفل العام المقبل بالذكرى السنوية الثانية بأحوال أفضل؟
هذا عطش الشرق الدائم … وكله ينادي مع المرأة السامرية على بئر يعقوب: سيدي أعطنا من هذا الماء، لكي لا نعود نعطش ابدا.
مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام