تابع البابا فرنسيس يقول: إن واقع الهجرة من وجهة النظر المسيحية وكأي واقع بشريّ آخر يقوم بين جمال الخليقة المطبوعة بالنعمة والخلاص، وسرّ الخطيئة. وأمام التضامن وقبول الآخر والتفاهم نجد الرفض والتمييز والاستغلال والألم والموت. لكن على الرغم من المشاكل والأخطار والصعوبات التي يواجهها المهاجرون واللاجئون فهم يتحلون بالثقة والرجاء ويحملون في قلوبهم الرغبة في مستقبل أفضل ليس لأنفسهم فقط وإنما لعائلاتهم ومحبّيهم أيضًا.
أضاف الأب الأقدس يقول: ماذا يتطلب منا خلق عالم أفضل؟ توجِّهنا هذه العبارة للبحث عن نمو حقيقي وشامل والعمل لينعم الجميع بحياة كريمة. يكتب البابا بولس السادس في رسالته العامة “ترقي الشعوب”: ” إن ما يطمح إليه الناس في يومنا هذا هو أن يتحرّروا من ربقة البؤس، ويحصلوا بوجه أضمن على أسباب المعيشة والصحّة والعمل المستقر؛ وأن يُصيبوا من المسؤوليات حظّاً أوفر، بعيدًا عن كابوس الضغط وعبء الأوضاع المهينة لكرامتهم كبشر؛ وأن يصيبوا من العلم نصيباً أكبر. وبالاختصار: أن يعملوا أكثر، ويعرفوا أكثر، ويملكوا أكثر، لكي يكونوا أكثرَ (إنسانيةً)” (عدد 6). فقلبنا يرغب بالـ “أكثر” الذي يتخطى المعرفة والامتلاك، فلا يمكننا أن نحول التطور إلى مجرد نمو اقتصادي غالبًا ما نحققه دون النظر إلى الأشخاص الأكثر ضعفًا. فالعالم يتحسن فقط إن أخذنا بعين الاعتبار الشخص البشري بكامل أبعاده دون أن يُترك أحد بمن فيهم الفقراء والمرضى والمساجين والمعوزين والغرباء (راجع مت 25،31-46)
أضاف الحبر الأعظم يقول: المهاجرون واللاجئون ليسوا بيادقةً في شطرنج البشرية، إنهم أطفال ونساء ورجال يترُكون أو يجبرون على ترك منازلهم لأسباب عديدة ويشاركوننا الرغبة الطبيعية عينها للمعرفة والامتلاك ليكونوا “أكثر”، لذلك تلتزم الكنيسة في مسيرتها مع المهاجرين واللاجئين لتفهم أسباب الهجرة الأساسية وتعمل على تخطي النتائج السلبية وتساهم في زيادة الآثار الايجابية في الجماعات التي يأتي منها المهاجرون والجماعات التي يقصدونها.
تابع البابا يقول: لذلك وبينما نشجع التطور نحو عالم أفضل لا يمكننا ألا ندين الفقر في جميع أشكاله، إذ إنه غالبًا ما تترافق أشكال الفقر هذه مع عوامل الهجرة وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا. فواقع الهجرة بأبعاده التي يتخذها في عصر العولمة هذا يتطلب تدخلاً جديدًا منصفًا وفعالاً، تعاونًا دوليًّا وروح تضامن ومحبّة. وبهذا الصدد كتب البابا بندكتس السادس عشر في رسالته العامة “المحبة في الحقيقة”: “أنّا نواجه ظاهرةً اجتماعيّة تميّز عصرنا، تتطلّب سياسةَ تعاونٍ دوليّة متينة وواعية، على المدى البعيد، كي تؤخذ بالحسبان بطريقة ناجعة. إن مثل هذه السياسة يجب أن تُطوَّر، انطلاقاً من تعاونٍ وثيقٍ بين البلدان القادمِ منها المهاجرون والبلدان القاصدين إليها” (عدد 62). فالعمل معًا من أجل عالم أفضل يتطلب عونًا متبادلاً بين البلدان، إذ إنه لا يمكن لأي بلدٍ أن يواجه وحده الصعوبات الناتجة عن هذه الظاهرة.
أضاف البابا يقول: من الضروري أيضًا أن نفهم أن هذا التعاون يبدأ مع الجهود التي يبذلها كل بلدٍ لتحسين أوضاعه الاقتصادية والاجتماعيّة فلا تكون الهجرة عندها الخيار الأوحد للذي يبحث عن السلام والعدالة والأمن واحترام الكرامة البشريّة. وفي النظر إلى واقع المهاجرين واللاجئين، تابع الأب الأقدس يقول أود أن أتوقف عند عنصر آخر في مسيرة بناء عالم أفضل وهو تخطي الأحكام المسبقة والتفهم فيما يختص بظاهرة الهجرة. فوسائل الاتصالات الاجتماعية تلعب دورًا كبيرًا في هذا المجال إذ عليها أن تُسقط كل صورة نمطيّة عن المهاجرين وتقدم معلومات صحيحة بحيث تدين أخطاء البعض وتشيد بنزاهة البعض الآخر. ولذلك من الأهمية بمكان أن يغيّر الجميع تصرفاتهم تجاه المهاجرين واللاجئين، وينتقلوا من موقف الدفاع والخوف واللامبالاة والذي يتماشى مع “ثقافة الإقصاء”، إلى موقف مبني على “ثقافة اللقاء”.
أتوجه بفكري إلى عائلة الناصرة التي عاشت خبرة الرفض منذ بداية مسيرتها: فمريم قد: “ولَدَتِ ابنَها البِكَر، وقَمَّطَتهُ وأَضجَعَتهُ في مِذوَدٍ لأَنَّهُ لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في الـمَضافة” (لو 2، 7). لقد اختبر يسوع ومريم ويوسف معنى أن يترك المرء أرضه ويهاجر: إذ أُجبروا على الهرب واللجوء إلى مصر خوفًا من عطش هيرودس إلى السلطة الذي كان يهدّدهم (راجع متى 2، 13- 14). لكن قلب مريم الوالدي وقلب يوسف المحب لم يفقدا أبدًا ثقتهما بالله الذي لا يتركنا أبدًا، لذا وبشفاعتهما ليكن هذا اليقين ثابتًا أبدًا في قلب كل مهاجر ولاجئ.
فالكنيسة بإجابتها على دعوة المسيح لها: “إذهبوا وتلمذوا جميع الشعوب”، هي مدعوة لتكون شعب الله الذي يعانق جميع الشعوب ويحمل لهم إعلان الإنجيل، لأن وجه المسيح مطبوع في وجه كل شخص بشريّ! وهنا تكمن جذور كرامة الشخص البشري التي يجب علينا دائمًا احترامها وحمايتها. فكل إنسان هو ابن الله وقد طُبعت فيه صورة المسيح! لذا علينا أن نراها نحن أولاً ونساعد الآخرين ليروا في المهاجر واللاجئ ليس مجرّد مشكلة يجب مواجهتها بل أخوة وأخوات علينا قبولهم واحترامهم ومحبتهم، إنها فرصة تقدمها لنا العناية الإلهيّة لنساهم في بناء مجتمع أكثر عدالة وديمقراطيّة، عالم أكثر أخوة وجماعة مسيحيّة أكثر انفتاحًا بحسب الإنجيل.
وختم البابا فرنسيس رسالته بمناسبة اليوم العالمي للمهاجر واللاجئ بالقول: أعزائي المهاجرين واللاجئين لا تفقدوا الرجاء بأن لديكم
مستقبلا أكثر أمانًا وأنكم ستجدون خلال مسيرتكم يدًا ممدودة تسمح لكم باختبار التضامن الأخوي ودفء الصداقة! أصلي من أجلكم جميعًا ومن أجل جميع الذين يكرسون حياتهم وطاقاتهم لمؤازرتكم وأمنحكم فيض بركاتي الرسوليّة.