1. الكنيسة، في زمن الصليب من السنة الطقسية، الذي نعيشه اليوم، تقرأ علينا في كلّ أحد، حتى نهاية تشرين الأول، إنجيل النهايات والواقعات الجديدة: والموت ونهاية العالم، ومجيء المسيح الثاني بالمجد وقيامة الموتى، والدينونة فالخلاص والهلاك الأبدي. ويتضمّن هذا الإنجيل دعوة إلى الكنيسة وأبنائها وبناتها ومؤسّساتها، للسهر والالتزام والثبات بوجه المصاعب والمحن والاضطهادات ومحاولات التضليل. فالمسيح حاضر في الكنيسة ومعها، وفاعل في حياة المؤمنين والمؤمنات. لذلك يدعونا للتنبّه “فسوف يقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة … ليضلّوا المختارين أنفسهم، لو قدروا” (متى24:24).
2. يسعدني أن أحيّيكم جميعاً، وأشكر حضوركم، مع صلاتي من أجلكم ومن أجل عائلاتكم. ونصلّي معاً من أجل المسيحيّين في لبنان وسوريا والعراق ومصر وسواها من البلدان لكي يصمدوا بوجه كلّ محاولات التضليل، والاعتداء، ثابتين في إيمانهم المسيحي، وشاهدين للحقيقة والمحبة والعدالة والحرية التي أعلنها المسيح الربّ من أرض الشّرق الأوسط، كأساس للسلام، عطيّة الله للبشر.
ونشكر الله معكم، على ملامح فجر جديد في السياسة الدّولية بدأَ بقرار مجلس الأمن بالأمس لإتلاف الأسلحة الكيميائية في سوريا. هذه الملامح برزت كباكورة لثمار يوم الصلاة والصوم والتوبة الذي دعا إليه وأحياه قداسة البابا فرنسيس مع كنائس العالم، في ذاك السبت 7 ايلول الجاري، من أجل السلام في سوريا والشرق الأوسط وفي العالم. وإنّنا نواصل صلاتنا لكي تعمل الأسرة الدوليّة على إيقاف الحرب في سوريا، وعقد مؤتمر جنيف 2، لإيجاد الحلّ السلمي العادل والشامل والدائم للنزاعات القائمة في منطقتنا، فلا تعرقلها المصالح الخاصّة التي تدفع بأصحابها إلى الاستمرار في الحرب والعنف والقتل والتشريد، لأهداف سياسيّة ومذهبيّة واقتصاديّة ظالمة ومستبدّة.
3. ونصلّي معكم أيضاً وقد آلمتنا بالعمق مأساة ضحايا بلدة قبعيت وغيرها من بلدات عكار العزيزة، السبعة والعشرين المعروفين حتى الآن، والذين غرقت بهم العبّارة في بحر اندونيسيا، وهم في طريقهم إلى اوستراليا، بحثاً عن لقمة العيش الهادئ والمطمئن التي لا يوفّرها لهم ولعائلاتهم وطنهم لبنان، بسبب إهمال أهل السلطة والنفوذ والطبقة السياسيّة والمذهبيّة. وهم يعرقلون تأليف حكومة جديدة جامعة وقادرة على مواجهة التحدّيات والاستحقاقات، ويشلّون عمل المؤسّسات الدستوريّة، ويؤجّجون نار الفتنة والنزاعات والخلافات، ويضيّقون الخناق الاقتصادي والمعيشي على رقاب المواطنين، ويقحمون أبناء الوطن وبناته، ولاسيّما شبيبته وقواه الحيّة، على هجرته. إنّنا ندين بكلّ شدّة هذا التصرّف السياسي الهدّام، الذي يشوّه “وطن الرسالة والنموذج”. وبسبب هذا الإهمال والخلاف بين الفريقَين السياسيَّين المذهبيَّين، يتفشّى السلاح غير الشرعي المتسبّب بالفلتان الأمني، فكانت بالأمس أحداث بعلبك وطرابلس. وهذا أمرٌ لا يُطاق ويُشكّل جريمة بحق الوطن وشعبه. إنّنا نناشد المسؤولين السياسيّين عندنا احترامَ لبنان دولة وشعبًا، والولاء له أوّلاً وآخرًا، وإخراجَه من أزمته السياسيّة والاقتصاديّة والأمنية، وتحييدَه عن الصراعات المذهبية والمحاور الإقليمية، عملاً بالميثاق الوطني وإعلان بعبدا. فيتمكّن من القيام بما له من دورٍ بنّاء وسط الأسرتَين العربيّة والدوليّة، في كلّ ما يختصّ بالسلام والعدالة والعيش معًا المسيحي – الاسلامي على قاعدة التنوّع في الوحدة، وتعزيز النمو الثقافي والاقتصادي. فينبغي على اللبنانيين العمل على إعلاء شأن وطنهم لبنان، ليكون على مستوى تطلّعات الأسرة الدوليّة، ولاسيما الدول الصديقة، كما ظهر ذلك بنوعٍ خاص بمناسبة مشاركة فخامة رئيس الجمهوريّة في الجمعيّة العمومية لمنظّمة الأمم المتحدة، وكلمتِه فيها، ولقاءاتِه مع رؤساء الدول.
4. “سوف يقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة… ليضلّوا المختارين أنفسهم لو قدروا” (متى24: 24).
إنّها محنة التضليل التي يواجهها أبناء الكنيسة وبناتها، على يد المضلّلين الّذين يسمِّيهم الربّ يسوع “المسحاء الكذبة” و”الأنبياء الكذبة”(متى24: 23-26). وينبّه إلى ظهور هؤلاء، فيؤكِّد مجيئهم ومحنة التضليل بالكلام والأفعال. وهم اليوم الإيديولوجيّات والتيارات المنافية لتعليم الكنيسة والكتب المقدسة، والاكتشافات العلميّة التي تستبيح كلّ شيء وتخالف الشريعة الإلهية والأخلاقية والطبيعيّة؛ وهم أيضًا الحلول الظاهرة لمشاكل الناس مع دعوتهم المباشرة وغير المباشرة لنكران إيمانهم، أو لوضعه جانباً، أو للتشكيك بالحقيقة المطلقة وبقدرة الله، أو للتحوّل عن الكنيسة وإفراغها من عنصرها الإلهي، والنظر إليها فقط كجماعة بشريّة منظّمة، وتجريدها من رسالتها الإلهيّة ووسائل الخلاص المؤتمنة عليها.
“المسحاء والأنبياء الكذبة” يمثّلون أيضًا الأناس الذين يمجّدون نفوسهم ويسعون إلى تمجيد الناس لهم؛ يحتلّون مكان الله ومسيحه، ويوهمون الناس بأنّ الخلاص زمني ويأتي على أيديهم، بقوّة الإغراء والسياسة والمال والنفوذ (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 676).
5. يؤكّد الرب يسوع من جهة ثانية أنّ مجيئه الثاني بالمجد، لدينونة الأحياء والأموات، مفاجئ ويشبه البرق، ويجمع حوله الجميع، كالجثّة التي تجتمع حولها النسور (متى 28:24-27)،
ويعطينا علامات نبوية عن نهاية العالم؛ وهذا ما نعلنه في قانون الإيمان.
إيماننا بمجيء الربّ بالمجد للدينونة، يضعنا في موعد دائم معه كل يوم، لانه يأتي لكي ينتصر من خلالنا وبواسطتنا على الشر الذي نواجهه ويجرّبنا بمغرياته. يأتي الينا كل يوم بكلامه الانجيلي، وبالهامات الروح القدس، وبنعمة الاسرار التي تقوينا وتعطينا المناعة بوجه تجارب الحياة.مجيئه بالمجد هو خاتمة مجيئه اليومي المتكرر في حياة كلّ واحد منّا، ومن خلالنا ينتصر على الشر، فيعمّ الخير. المسيحيون مدعوّون لخلق هيكلية خير في وجه هيكلية الشر.
وكما أنّ المسيح قام حقّاً من الموت، ويعيش إلى الأبد، هكذا الأبرار، بعد موتهم، سيحيون إلى الأبد مع المسيح القائم، إذ يقيمهم في اليوم الأخير ويشركهم بالمجد السماوي(راجع يوحنا 6: 39-40). هذا الإيمان هو عنصر أساسي من إيماننا المسيحي، لكونه نتيجة إيماننا بقيامة المسيح. وقد أقامنا الربّ شهودًا لها(راجع أعمال1: 22). ما يعني أننا مدعوون لنعيش في حالة دائمة لقيامة القلوب من موت الخطيئة والشر.
6. إيماننا بالنهايات والواقعات الجديدة بعد الموت ونهاية العالم، يتّخذ حالة الانتظار والرجاء مع الالتزام. الإيمان بالمسيح الذي نميّزه من “المسحاء الكذبة”، ينير دربنا ودرب كلّ الذين يبحثون عن الله، وينير حوارنا مع أتباع الديانات الأخرى. هذا الإيمان المنير يعلّمنا أيضاً أنّ الله يكافئ كلّ من يبحث عنه، إذ يأتي لملاقاته على طريقه لكي يحاوره. ليس الله عقيدة أو شيئاً أو مبادئ ومعارف، بل هو قبل كلّ شيء شخصله أحاسيسه ومشاعره، وله علاقاته مع البشر.
النهايات والواقعات الجديدة ليست قائمة بحدّ ذاتها، بل مرتبطة بالله الذي هو وحده يضع حدّاً للحياة في التاريخ، وحدّاً للأزمنة وللعالم، وهو الذي يطالب كلّ إنسان بالحساب عن حياته وأفعاله، وهو الذي يُشرك الأبرار بحياته الإلهية وسعادة الخلاص، ويحرم منها الذين خانوه وأنكروه واستعدوه، فيكون مصيرهم الهلاك الأبدي. في ضوء هذا الايمان كانت الوصية الروحية: “تذكّر أواخرك أيّها الانسان، فلا تخطأ الى الابد”.
7. من الواجب أن يقف كلُّ واحدٍ منّا أمام ضميره وواجبه تجاه الله الناس، وتجاه المجتمع والوطن. فالواجب نحو الله يقتضي أداء العبادة له وحفظ وصاياه ورسومه، والبحث عن إرادته والعمل بموجبها، وسماع صوته في الكتب المقدّسة وتعليم الكنيسة، واستلهامه للقيام بكلّ عمل ومبادرة.والواجب نحو الناس احترامهم والتعاون معهم بروح الأخوّة والمواطنة، وحماية صيتهم وكرامتهم وقدسية حياتهم. والواجب نحو المجتمع العمل على إنمائه وإزدهاره، وإحياء علاقات التضامن والترابط بين أشخاصه ومكوّناته. والواجب تجاه الوطن المحافظة على كيانه بوحدته وسيادته واستقلاله، وتعزيز العيش معًا بصفاء وإخاء وبالمشاركة في إدارة شؤونه، وتفعيل مؤسّساته الدستوريّة: الاشتراعيّة والتنفيذية والإداريّة والقضائية والعسكرية.
إذا قام كلّ واحد بواجب حالته، استطعنا أن نرفع بإخلاصٍ نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن واإلى الأبد، آمين.