أصدر قداسة البابا فرنسيس رسالة عامّة بعنوان: “نُور الإيمان LUMEN FIDEI“، بتاريخ 29 حزيران 2013، في ذِكرى عيد هامتَي الرُسُل بطرس وبولس، وفي إطار “سنة الإيمان” التي يحتفل بها العالَم الكاثوليكيّ (11 تشرين الأوّل 2012 – 24 تشرين الثاني 2013).
1- نظرة عامّة إلى الرسالة
إليكم بعض المعطيات الهامّة التي تشدّ الانتباه، قبل التوغّل في قراءة نصّ الرسالة البابويَّة:
1. هي “رسالة عامّة” (LETTRE ENCYCLIQUE) وليست “إرشاداً رسوليّاً” (EXHORTATION APOSTOLIQUE). والفرق بينهما أنّ “الرسالة العامّة” توجَّه إلى الأساقفة الكاثوليك والإكليرُس والمؤمنين العلمانيّين وتحمل طابع التعليم. أمّا “الإرشاد الرسوليّ” فهو، وإن كان موجَّهاً إلى الأشخاص المذكورين أنفسهم، إلاّ أنّه يحمل طابع التوجيه في أمور نوقشت في أثناء انعقاد مجمع عامّ أو سينودُس، فيأتي تتويجاً لهذه الأعمال. كما هو الحال في الإرشاد الرسوليّ “الكنيسة في الشرق الأوسط” الصادر في 14 أيلول 2012، الذي جاء ثمرةً للسينودُس حول: “الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة“، الذي عُقد في روما في تشرين الأوّل 2010. فالرسالة العامّة أعلى مرتبة من الإرشاد.
ورسالة “نُور الإيمان” هي أُولى رسائل البابا فرنسيس، أي هي أوّل وثيقة بابويَّة في عهد حَبْريّته.
2. جاءت الرسالة “نُور الإيمان” مكمّلةً لرسالتَي البابا بندكتُس السادس عشر حول الفضيلتين الإلهيّتين المحبّة والرجاء: “الله محبّة” (DEUS CARITAS EST) و”مخلَّصون بالرجاء” (SPE SALVI). فكانت السلسلة عكس ما هو معروف. فبدلاً من تدرّج الإيمان والرجاء والمحبّة، بدأت الرسائل بالمحبّة، ثمّ الرجاء، وآخِرها الإيمان.
3. وتحدّث المُنسنيور فولّو (FOLLO) عن ثلاثة مفاتيح (الإيمان والرجاء والمحبّة) لباب واحد. هذا الباب يقود إلى ملكوت السموات. ومَن يحمل المفاتيح هو الله والإنسان معاً. فلا الإنسان وحده يستطيع أن يلج من الباب بدون عون الله، ولا الله يريد أن يفتح الباب بدون مساهمة الإنسان الحرّة، أو قُل الطاعة لمشيئة الله ومخطّطه الخلاصيّ. الله واقف على باب الإنسان، يقرع بانتظار مَن يفتح له، ولكنّ الإنسان حُرّ في قراره.
4. لقد بدأ البابا بندكتُس السادس عشر بكتابة هذه الرسالة “وكان أوشك على إنهاء المسوّدة العامّة”. وقد أضاف البابا فرنسيس لمسته إلى النصّ من خلال “بعض المساهمات الإضافيَّة”. وهذا دليل على التواصل في الكنيسة، فلا قطيعة بين الأحبار، بل تكامل وتناغم وشركة في الإيمان الرسوليّ. كما هو الحال في سباق التتابع في حلبة الجري. وقد شبّه الكَردينال ويليت (OUELLET) هذه الرسالة المشتركة بين بابوين بتعبير موسيقيّ، فقال: “هي معزوفة على البيانو بأربع أَيْدٍ”.
5. الرسالة البابويَّة “نُور الإيمان” ليست طويلة، كما هي العادة في كتابة الرسائل السابقة. وهي مشبَّعة بالآيات الكتابيَّة، وحتّى عناوين الفصول جاءت في صيغة آيات كتابيَّة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآيات لا تأتي لدعم الفكر اللاهوتيّ، بل هو الفكر اللاهوتيّ الذي يستقي من نبع الكتاب المقدَّس ويستنير بنُور المسيح.
6. وهي رسالة غنيَّة بالصُوَر (الشمس، نجمة الصبح، الشعلة، النوافذ الخزفيَّة الملوّنة…)، وبكتابات الأقدمين (أوغسطينُس، يوستينُس، توما الأكوينيّ، دانتي…) والمعاصرين (روسّو، دوستويفسكي، نيتشِه، غوارديني…). وإذا كانت الرسالة تحمل أفكار البابا بندكتُس اللاهوتيَّة، إلاّ أنّ الأسلوب الإنشائيّ هو خاصّ بالبابا فرنسيس، بعفويّته وخطابه المباشر وهمّه الرعويّ. ولعل ّالأفعال الثلاثة التي طُبعت بها هذه الرسالة هي الأفعال القريبة إلى قلبه، وقد ذكرها في عظته الأُولى: “أن نسير إلى الأمام، وأن نبني معاً، وأن نعترف أمام الله”. إنّ البابا فرنسيس يترجم المعطيات اللاهوتيَّة إلى موضوعات رعويَّة تساعد في التفكير والتعليم والتطبيق.
7. تقسم الرسالة إلى مقدّمة، وأربعة فصول، وخاتمة.
2- مضمون الرسالة العامّة
دعونا الآن نغوص في عُمق الرسالة بكلّ أقسامها وأبعادها:
أ- المقدّمة
تقدّم لنا الكنيسة شخصيَّة يسوع، كما قال عن نفسه في يوحنّا: “جئتُ أنا إلى العالَم نُوراً، فكلّ مَن آمن بي لا يبقى في الظلام” (12/46). ويعبّر بولس الرسول عن هذه الحقيقة بقوله: “فإنّ الله الذي قال: “ليشرقْ من الظلمة نُور” هو الذي أشرق في قلوبنا” (2قورنتُس 4/6). إذا كانت الشمس هي التي تُنير الكون وتُشرق في كلّ صباح، إلاّ أنّها لا تستطيع أن تُنير عُمق الإنسان وظلام الموت. فالمسيح هو شمسنا الحقيقيَّة التي تُعطي أشعّتُها الحياة. وبإيماننا نستطيع أن نرى نُوراً يضيء دربنا. وهذا النُور يأتينا من المسيح القائم من بين الأموات، “نجمة الصبح” التي لا تغيب.
نحن نتحدّث عن شعلة نُور الإيمان كي تنمو فينا وتُنير حياتنا في زمن نحن بأشدّ الحاجة إلى النُور. ولذلك أكّد الربّ يسوع لبطرس: “صلّيتُ من أجلك كي لا تفقد إيمانك” (لوقا 22/32). وأضاف “وأنتَ ثبّتْ إخوانك” في هذا الإيمان.
ومن هذا المنطلق تهدف الرسالة إلى إع
ادة اكتشاف “خاصّيَّة نُور الإيمان” لأنّه “عندما تنطفئ شعلة الإيمان، تفقد كلّ الأنوار الأُخرى حيويّتها. فنُور الإيمان يملك، في الحقيقة، خاصّيَّة فريدة، لأنّه قادر على إنارة كلّ وجود الإنسان”. مَن نحن؟ وإلى أين المصير؟ لماذا الخير والشرّ؟ ولماذا الموت؟ وماذا بعد الحياة؟… كلّها أسئلة في حاجة إلى جواب. وجوابنا بأتي في ضوء نُور الإيمان.
وجودنا اليوم يختلف عن وجود المؤمنين في ما مضى. فنحن نمرّ في زمن متغيّر تبدّلت فيه المراجع الأخلاقيَّة وانحسرت الثوابت الروحيَّة، وتعاظمت قدرات الإنسان العِلْميَّة والتكنولوجيَّة.
فلا يمكننا أن نبقى في برجنا العاجيّ، بل علينا أن نخرج للقاء العالَم في آلامه وآماله، وأن نعطي جواباً لما يعيشه إنسان اليوم بروح الخدمة والأمل. “فالإيمان ليس فضيلة فرديَّة أنانيَّة، بل هو فضيلة انفتاح نحو الآخَر لملاقاته والحِوار معه والسَير معه نحو ملكوت الله”.
ب- الفصل الأوّل: “نحن آمنّا بالمحبّة” (1يوحنّا 4/16)
لهذا الفصل أبعاد ثالوثيَّة:
– هو الله الآب الذي دعا إبراهيم إلى الإيمان، فاستجاب وأصبح “أباً لنا في الإيمان” بحسب العهد القديم. واتّخذت كلمة “الإيمان” معنى: “الأمان” و”الأمانة”. وهذا الإيمان يرتكز على كلمة الله. ومن هنا دُعي موسى النبيّ “كليم الله” لأنّه رأى نُوره وآمن، في حين أنّ الشعب ترك الله وعاد إلى عبادة العجل والأوثان. ولكنّ الله لا يتخلّى عن الإنسان، لأنّ الإيمان عطيَّة مجّانيَّة، وهي تتطلّب التواضع والثقة والتسليم. ولا ينفكّ الله الآب، خلال تاريخ الخلاص، عن إنارة بصيرة الإنسان وقلبه ودربه. الإيمان هو علاقة شخصيَّة بين الله والإنسان، فهو “يدعونا باسمنا”.
– هو الله الابن، يسوع المسيح، الذي يحقّق كمال الإيمان، فيصبح “آمين”، ويحقّق جميع الوعود والنبوءات. فهو “الشاهد الأمين”، الذي بموته وقيامته نلنا الخلاص. إنّ الإيمان المسيحيّ هو إيمان بالمحبّة التي تستطيع أن تغيّر العالَم وتُنير الزمان، كما يؤكّد يوحنّا الرسول: “نحن عرفنا المحبّة التي يُظهرها الله بيننا وآمنّا بها” (1يوحنّا 4/16). فإيمان المسيحيّ هو إيمان تجسّديّ. إيمان بالله الذي سكن بيننا بجسد ابنه يسوع، ولذلك أحبّنا حتّى بذل ابنه من أجلنا ووجّه العالَم إليه، ومن هنا، علينا أن نلتزم ونتابع مسيرتنا على هذه الأرض. وللإيمان بيسوع بُعدان: الاعتراف به كابن الله (CROIRE EN LUI)، والثقة به لأنّه يقودنا إلى الخلاص (CROIRE A LUI).
– هو الله الروح القُدُس الذي يعمل فينا اليوم ويغذّي شعلة الإيمان، ويجعلنا ننادي الله “يا أبتِ!”، فنصبح أبناء له بالإيمان بالمسيح يسوع. فإنّنا جميعاً، وقد اعتمدنا في المسيح، قد لبسنا المسيح، وأصبحنا واحداً في المسيح يسوع (راجع غلاطية 3/23–4/7). فبدون فيض الروح القُدُس في قلوبنا لا نستطيع أن نتجاوب مع محبّة الله لنا ولا نستطيع أن نعترف بيسوع ربّاً (راجع روما 5/5 و1قورنتُس 12/3).
وبعد هذا البُعد الثالوثيّ تُشير الرسالة أيضاً إلى البُعد الكنسيّ للإيمان. فلا يوجد إيمان منعزل، أو مؤمن منفرد أو خصوصيَّة عقائديَّة، بل إنّ كلّ المؤمنين يكوّنون جسد المسيح الواحد، وهو الرأس. ومن هنا، كان إيماننا كنسيّاً، جَماعيّاً، يظهر كشركة بين جماعة المؤمنين الذين يشاركون في مسيرة الكنيسة على الأرض، كحُجّاج في التاريخ نحو كماله. هي نظرة جديدة إلى العالَم يعطينا إيّاها نُور الإيمان.