عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في كنيسة السيدة الكبرى – بيت شباب – الاحد 20 تشرين الأوّل 2013

“يا لك عبداً صالحاً وأميناً!

Share this Entry

كُنتَ أميناً على القليل، سأقيمُك على الكثير! أُدخلْ فرح سيدك”

(متى 21:25)

1. ملكوتُ الله، في إنجيل اليوم، هو علاقةُ الله بكلّ إنسان، من خلال “ما يسلّمه من وزناتٍ على قدر طاقة كلّ واحد”. وهي المواهبُ والعطايا والمقدِّرات والإمكانيّات، المادّية والروحيّة، العائليّة والثقافية، الاجتماعية والوطنية. كلُّها من جودة الله ونشاط كلّ إنسان وتعبه. تُعطى لنا لكي نعرف عنايةَ الله بنا، فنحبّه أكثر، ونحقّق نموَّ ذواتنا، ونساعدُ غيرنا على نموّه، ونساهم في تقدّم مجتمعنا ووطننا وكنيستنا والعائلة. وعلينا، عند ساعة موتنا، أن يُقّدم كلُّ واحدٍ منّا حسابَه لله. نأمل ونصلّي لأن نكون مثل صاحبَي الوزنات الخمس والوزنتين، فنسمع منه: “يا لك عبداً صالحاً وأميناً! كُنتَ أميناً على القليل، سأقيمُك على الكثير! أُدخلْ فرح سيدك” (متى 25: 21).

2.يسعدنا أن نحيِّي سيادة أخينا المطران كميل زيدان، راعي الأبرشية، ونشكرَه من صميم القلب على الدعوة للقيام بهذه الزيارة الراعوية التي بدأناها أمس. وتشمل اليوم بلدة بيت شباب العزيزة الغنيّة بالكنائس الرعائية، والمؤسسات الرهبانيّة التربويّة والاستشفائيّة، وسواها من المؤسّسات، وبأهلها وتراثها وتاريخها. فالتقينا وفودَ كنائسها في قاعة كنيسة السيدة الكبرى التي تجمعنا الآن حول هذه اللّيتورجيا الإلهيّة. فأحيِّي كاهنَها العزيز الخوري سمير بو شبلي وسائرَ الكهنة والآباءَ خَدَمةَ رعايا الكنائس الأخرى ولجانَ الأوقاف والأخويات والمنظَّمات الرسوليّة والمجالسَ واللِّجانَ الراعوية. ولقد شملت زيارتُنا صباح اليوم رعيةَ مار يوسف – الفريكه، وستشمل رعية مار جرجس – الشاوية، ودير مار جرجس -بحردق.

إنّنا نقدّم هذه الذبيحة الإلهية من أجلكم ومن أجل جميع أبناء الرعايا الأخرى، ذاكرين مرضاكم ملتمسين لهم الشفاء، وموتاكم مُصلّين لراحة نفوسهم في سعادة السماء. ونصلّي، بنوع خاص، من أجل أن يُدرك كلُّ واحدٍ منّا أنّ ما له من مواهب وقدرات وإمكانيّات على أنواعها، كبيرةً كانت أم متوسّطة أو صغيرة، إنما هي وزناتٌ – عطايا من الله، ينبغي تثميرُها بالنشاط والعمل، لخيرنا الشخصيّ ولخير العائلةِ والكنيسةِ والمجتمعِ والوطن.

3. المتاجرة بالوزنات، التي يدعونا إليها الإنجيل لتثميرها، تندرج في إطار العمل البشري وقيمتِه الروحية. يُعلّم المجمعُ المسكونيّ الفاتيكاني الثاني: “نشاط الانسان، الفردي والجماعي بالمجهود الجبّار الذي يبذله الناسُ على مدى الأجيال لرفع مستوى حياتهم، إنّما يتطابق مع تصميم الله.

فالإنسان المخلوقُ على صورة الله، تَسَلّمَ منه مَهمّة إخضاعِ الأرض مع كلّ ما تحتوي، لكي يسوسَ العالمَ بالعدل والقداسة، ويرفعَ ذاته والكونَ بأسره إلى الله، إقرارًا منه بأنّه خالقُ كلِّ الأشياء. فإذا أُخضع كلُّ شيءٍ للإنسان، يتمجّد اسمُ الله على كلّ الأرض”(الكنيسة في عالم اليوم).

4. إنّه إنجيل العمل. يُبيّن كرامة العمل البشري، ويُعلّم أنّه على الإنسان، فيما يعمل، أن يقتدي بالله، خالقِه، لأنّه يحمل وحده في ذاته عنصرَ الشَّبَه بالله. عليه أن يقتديَ بالله في عمله وفي استراحته. يقول الرب يسوع: “إنّ أبي يعمل دائمًا…”(يو15: 17). أجل، ألله يعمل بقوّته الخالقة، حافظًا في الوجود العالمَ الذي دعاه من العدم؛ ويعملُ بقوّته الخلاصيّة في قلوب البشر، الذين دعاهم منذ البدء “للإستراحة”(عب4: 1 و 9) في الاتحاد به، في “بيت الآب”(يو14: 2).

وهكذا، لا يقتصر العمل البشري على  ممارسة القوى الانسانية في العمل الخارجي، بل ينبغي أن يحتفظَ بمساحةٍ داخلية يعمل فيها على أن يصبحَ كلُّ انسان أكثر فأكثر ما يريده الله أن يكون. وبذلك يستعدّ لتلك “الراحة” التي يحفظها الله لعباده وأصدقائه (راجع متى 25: 21).

5. إن إنجيل العمل يشمل كل ما يقوم به الانسان في سبيل نمو الذات والعائلة والمجتمع والكنيسة. وينطبق، بنوعٍ خاص، على المسؤولين عن الحياة العامة، في البرلمان والحكومة والإدارة والقضاء والأمن، وعلى الذين يتعاطَون الشأن السياسي. إنّ، بين أيديهم، كلَّ مقدّرات الدولة، من مالٍ عام ومؤسساتٍ دستورية وإدارات. فمن واجبهم تثميرُها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، تشريعيًّا وإجرائيًّا وإداريًّا وثقافيًّا، من أجل الخير العام، الذي منه خيرُ كلّ مواطن ومواطنة.

فيوجِبُ اللهُ عليهم، في ضوء إنجيل الوزنات، ممارسةَ واجباتهم بروح المسؤولية والتجرّد والخدمة بكفاءةٍ وفعالية ومناقبية، بعيدًا عن الكذب والاحتيال والمراوغة. فالعمل السياسيّ فنٌّ أخلاقيٌّ نبيل في أساسه وطبيعته، فلا يتلاءم مع التسلّط والفساد والالتباس والاستكبار.

6. إننا من هنا نناشد ضمائر جميع السياسيين، ولا سيما الفريقَين السياسيَّين المذهبيَّين المتنازعَين، الكفّ عن تعطيل تأليف الحكومة الجديدة لمآرب شخصية وفئوية ومذهبية، وعن شلِّ الحركة الاقتصادية والسياحية والتجارية، وإغراقِ البلاد في بحرِ الدَّين العام المتزايد، وقهرِ الشعب اللبناني بزجّه في الفقر والبطالة، وإرغامه على الهجرة نحو المجهول. ونقول لهم: إننا بإدانةٍ شديدة، وباسم الشعب اللبنانيّ المقهور، نرفض هذا التصرّفَ الجائر وسوءَ التعامل مع مقدّرات البلاد. ونعتبر كلَّ هذا خيانةً للشعب الذي وكّلهم على خدمته وخدمةِ البلاد. فالشعب هو، كما يعلن الدستور اللبناني في مقدمته: “مصدرُ السلطات وصاحبُ السيادة ، يمارسها عبر مؤسساته الدستورية”(د).

7. إننا نعيدُ النداء ونكرّرُه، مع الشعب ا
للبناني، لتشكيل حكومةٍ جديدة اليوم قبل الغد؛ ولإقرارِ قانونٍ جديدٍ للانتخابات، وإجراءِ الانتخاباتِ النيابية بموجِبِه في أسرع وقتٍ ممكن؛ ولانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية في موعده الدستوري؛ ولمعالجة قضية نزوح الاخوة السوريين الى لبنان، ومعضلاتِه الاقتصادية والسياسية والتربوية والامنية.

8. لكننا نلتزم ككنيسة بنشر ثقافة الدولة المدنيّة الديمقراطية، والتربيةِ عليها في مدارسنا وجامعاتنا، وفي العائلة المسيحية المؤمنة والمخلصة للبنان. وهي ثقافة لا تفصل بين الشعب والدولة، لكونه هو “مصدرُ سلطاتها وصاحبُ سيادتها”. إنها ثقافةُ الشعب الذي يحاسب ويسائل السياسيين الذين وكّلهم على خدمته وعلى قيام الدولة. وهي ثقافة حياد لبنان عن المحاور والتحالفات العسكرية، الاقليمية والدولية، والتزامِه خدمةَ محيطه المشرقي في صناعة السلام واحترامِ حقوق الانسان وصونِ الحريات. وهي ثقافة العيش معًا على قاعدة التنوّع في الوحدة، والتعاون، والمشاركة المتوازنة في الحكم والإدارة. وهي ثقافة الحكم المركزي التوافقي مع اللامركزية الادارية والانمائية الواسعة. على هذه الثقافة المتعدّدة الأبعاد تُبنى الدولة القادرة والجديرة.

ينبغي أن يدرك الجميعُ أنْ لا دولةَ من دون شعب يحاسب ويسائل؛ ولا دولةَ مع فساد سياسي؛ ولا دولةَ من دون احترامٍ للدستور والقانون؛ ولا دولةَ بمنطق القوّة الذاتية.

9. أيها الأخوة والأخوات، لبنان، بما فيه من مقدرات، وبما عنده من وزنات بحكم مكوّناته الدينية والثقافية والاجتماعية المتنوّعة، هو مسؤولية الجميع. إنجيل اليوم يدعونا لتثميرها، ولإعادة البهاء والدور له، لأنّ “مجدَه أُعطيَ للحكمة الإلهية” كما نقرأ في سفر أشعيا(35: 2). هذا المجد نرفعه من القلوب الصافية والمُحبّة نشيد شكر للآب والابن والروح القدس إلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير