السرطان هذا المرض الخبيث . لا نذكر أسمه في كثير من الأحيان، بل تنتابنا القشعريرة و نحن فقط نحاول التمته به . فنقول مع بعض : أصيب فلان أو فلانة ( بذلك المرض ) و نكملها بعبارة ( يا رب احفطنا منه – أو يا رب نجينا ). السرطان ، وقحُ هو .. يأتي على حين غرة ، يصدم صاحبه ، عائلته ، محبيه و أصدقائه ، ملعونُ يبتسم للمرضى بخبثٍ و حنكة … يغتال للحظة الضحكات و يجعل الذكريات تأن بحصرة . يطفئ الأرواح رويداً رويداً و يخفت الصوت و الاجساد من رهبته تضمحل و تُمحى .
لا أريد بهذه المقدمة ان أحبط القارئ لكني أحاول وصف بعض ما ترأه عيوننا عند تلقي الخبر . و لكني أود هنا سرد ثلاث قصص لثلاثة نساء عرفتهون و هن مصابات بهذا المرض و رأيت كيف إنهن عشن الفضائل الإلهية من خلال هذا المرض ، ( الأيمان و الرجاء و المحبة) .
المرأة الأولى التي التقيت بها : رأيت انها تمثل فضيلة الإيمان :
لا أعرف اسمها و لا من هي. لكني التقيت بها في رياضة روحية صامتة للنساء في ( بيت مانريسا للرياضات الروحية التابع للأباء اليسوعيين في ولاية مشيكان الاميركية ) … و قد كتب حينها على صفحتي في ( الفيسبوك ) التالي
عظيم ايمانك ايتها المرأة
لم استطع ان اضع عيني بعيني هذه السيدة التي تجلس قرب تمثال مخلصي يسوع المسيح
هذه السيدة ذات البشرة الداكنة مريضة بالسرطان و لا أمل في الشفاء فقد انتشر المرض . التقيتها في الكنيسة في اليوم الاول للرياضة كانت ترتدي قبعة … لكننا حينما تعرفنا عليها في فترة الصلاة ، طلب النساء منها ان تخلع القبعة و تبقى معنا على طبيعتها ـ و هكذا كان الامر، حيث تبين ان شعرها قد سقط من أثر الدواء . اذكر كلماتها في قداس اليوم الاخير عندما قلنا الطلبات حيث قالت : “يا رب لأسالك الشفاء .. لكني فقد اطلبي منك ان تحمي اولادي .. و تصبر امي التي تتأمل من اجلي ” .
و عندما اخذنا جميعاً سر مشحة المرضى . و لاننا مؤمنين اننا جميعا مرضى روحيين ، جميعنا بكى من التأثر الروحي . أما هي ، هي الوحيدة التي بقيت تبتسم في القداس و استطعت ان ألمح في عينها السلام الداخلي . !!
المرأة الثانية : ومثلت لي فضيلة المحبة : وقبل أن أبدأ بالحديث عنها أرغب أن أهدي لها هذه الكلمات : “هناك من لا تملك منهن إلاّ ومضة ذكرى ، كنقرة وحيدة على مفتاح البيانو يتركنك معلّقًا لنظرة” .( من كتاب أحلام مستغانمي . الأسود يليق بكِ)
هذه الآنسة التي أول حروف اسمها ( إ. ن ) ( لن أقوم بذكر إسمها الكامل حفاظاًعلى مشاعر العائلة الكريمة ) هي التي تنتمي لعائلة مرموقة في الجالية الكلدانية في مشيكان ، لم أرها في حياتي سوى” ثلاث دقائق فقط” . ثلاثة دقائق فقط هي فترة محادثتنا . حينما سمحت الفرصة للقاءنا في حزيران 2010 ، تخيلت اني سألتقي بحطام انسان ” غافله المرض ” و أصابه الانكسار … و بدأ بالعد العكسي لأيامه المعددوة و لكن ، مع ( إ- ن ) أعدتُ حساباتي حول ( التحطم و الانكسار ) . اذا وجدها مشغولة بين اوراقها في الشركة الهندسية الخاصة بإخوتها ، حينما ، عَرفنا على بعضنا البعض أخاها الأكبر ( المهندس د. ن ) . و درا بيننا الحوار الثاني :
– أخبرها عن إسمي و اني من كنيسة أم الله و قد قدمت حديثاً من العراق … – بلهجة عراقية مرحبة قالت : هلو بيكي من وين من العراق ؟ – أجبتها من بغداد . – فقالت بتنهيده و سؤال ” بغداااااد؟ !!” و كأنها استعرضت بخيالها في ثوان معدودة “بغداد” التي تركتها في سبعينيات القرن الماضي بجمالها و فرحها و أصالتها و عيونها تسأل عن حالها و ما وصلت اليه . ثم أردف أخاها بالقول لقد انهت دراستها الجامعية في بغداد . و عندها لمعت عيناها و طفح محياها و سألت بلهفة في أي جامعة ” جامعة بغداد “؟؟ (و هي التي كانت قد درست فيها ) قلت لها لا كلية المنصور الجامعة – ادارة اعمال . و بالابتسامة و التحيات انتهى لقاءنا الوحيد بالوداع الاخير . بقيت أسال عنها بالاسابيع التي تلت لقاءنا ، و كان أخاها يجيني ( إن الحالة بدأت تتدهور فقط أطلب منكِ أن ” تصلي لأجلها” و كان يردف قائلاً : ” إنها مسيحية مؤمنة و تعيش السلام الداخلي و مستسلمة تماماً لمشيئة الرب ” و في أول أحد من شهر ايلول 2010 و اذ كنت قد خصصته للصلاة من أجلها و قدمتُ القداس على نية شفائها ، لكن عند خروجي إذ بي أقرأ اسمها في ورقة الاعلانات في الكنيسة و إن ” غداً الاثنين هو صلاة الجناز عن روحها في كاتدرائية أم الله للكلدان في مشيكان ،فقلتُ في نفسي ” (إ .ن ) لقد سبقتي صلاتي لكِ و تناولت على مائدة الحمل في السماء قبل أن أتناول على نيتك في الكنيسة ” . و في مجتمع مهجري مثل مجتمعنا و الذي يعرف فيه الجميع بعضهم البعض يبدأ الحديث عن حسنات الافراد و ما عملوا لأجل الاخرين و مع الايام تحولت ال” ثلاث دقائق الى ثلاثةِ عشر عاماً ” حيث تشكلت في مخيلتي مع صورتها و صوتها ، شخصيتها و طرق مساعدتها للاخرين و محبتها التي اتفق الجميع عليها ، حبها للسفر ، تتفننها في تقديم الهدايا و تغليفها و روحها الطيبة التي رافقتها حتى اخر ايامها . هذه هي ( إ . ن ) التي بقيت قوية و مقاومة لمرضها و صامدة في وجهه فلم يكسرها بل كسرته بسلامها الداخلي . هي التي عاشت بالمحبة مع من حولها فبقوا يبادلونها المحبة كل ما ذُكروا اسمها ، المحبة هي من تبقى حتى و غادرت بالجسد … فالمحبة لا تموت أبداً . المرأة الثالثة : و هي الصديقة ( ر. ك) معي في الكنيسة رأيت فيها فضيلة الرجاء : شابة في ( العقد الثالث من عمرها ) مرنمة ذاتُ صوتٍ
عذب ، روح مرحة و ابتسامةٍ عريضة . منذ نهاية شهر اذار الماضي اكتشفت بالصدفة و هي تفحص الم ظهرها انها تعاني من ( هذا المرض الخبث ) ، و كانت الصدمة شديدة على اهلها و علينا جميعاً في الكنيسة ، لم نستطع التصديق ، فلا شيء ظاهري ـ و الآلم كان عادياً جداً ، ليست هناك بوادر للمرض !!! و بين أسئلة بلا أجوبة و دموعٍٍ سائلة و أفكارٍ حائرة ، إبتدئنا بالصلاة الجماعية من أجلها ، كنا نحدد وقت معين و نصلي فيه جميعا في بيوتنا ، و حينما بدأت جلسات العلاج كنا نعرف في اي ساعة ستكون في المستشفى و نصلي بقلبٍ واحدٍ من أجلها . أما صديقتي فقد طلبت بكثرة شفاعة قديس عزيز على قلبي هو البابا كيرلس السادس ( بابا الاسكندرية و بطريرك الكرازة المرقسية الاسبق ) و نحنا في فترة الصلاة و اذا نقرأ في شهر حزيران الماضي إن ( المجمع المقدس للكنيسة القبطية الارثدوكسية و الذي عُقدَ 20 حزيران 2013 تم فيه اعلان قداسة البابا كيرلس السادس قديساً في الكنيسة القبطية الارثدوكسية ) فرحنا كثيراً و اعتبرناها اشارة من الرب . و أستمر الجميع بالصلاة الممزوجة بالدموع . قبل بضعتِ اسابيع أتانا الخبر المنشود ـ انه و بعد 6 جلسات علاج كيمياوي و فحص للأشعات في وجد الاطباء ان الفحصوصات نظيفة و قد زال المرض ! كان لصديقتي قوة برجائها بالرب : عملاً برسالة القديس بولس الرسول الى أهل روميا”نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 5: 3-5) القاسم المشترك بين النساء هو قوة الصلاة و السلام الداخلي ، صحيح إن منهن من رحلت ، لكن رحلت و كانت مستعدة ان تعطي دليل رجائها بالمسيح ، و من شفيت فقوة ايمانها كان أعظم و أقوى من المرض .