المخلوق، يبقى في مستوى بدائيّ (حيوانيّ)، كما تقول الفلسفات (حيوان ناطق)، إنْ لم يقم بقفزة نوعيّة في مسيرة النموّ بالروح وبالفكر ..! فهناكَ كائناتٌ بدائيّة يمكن أن نسمّيها (أشباه الإنسان) لم تتطوّر ولم تصلْ إلى التحرّر من الأطراف الأماميّة وتحرّر الدماغ، العلمُ لا يقدرُ أن يمدّ بصره، في أحيان كثيرة، للمسّ بحقيقة أنّ الإنسان يصيرُ إنسانًا حقيقيّا، وأن البعض يبقى في مستوى غير قابل للنموّ، أيّ أنّ العلم لا يستطيع إن يجيبَ بــ”لماذا” يصلُ الإنسان لقمّة السلمّ الإنسانيّ والأرتقاء، ولماذا ، البعض الآخر، يظلّ في مستوى بدائيّ غير متطوّر.. يأتي اللاهوت والإيمان، ويعطي ، من جانبه، الحلّ الشافي لهذه المعضلة، التي قد يتخبّط بها العلم والفلسفة، وهي أنه يستطيعُ أن يجيبَ على سؤال الـ” لماذا” بينما يظلّ العلم يراوح في مكانه بخصوص الـ”كيفَ”.
القى يسوع، من فوق الصليبْ، صرخته العظيمة التي شقّت السماء، والتي هي بالأحرى صلاة لمزمور داود:” إلهي إلهي لماذا تركتني؟!” … ولم يقلْ يسوع:” كيفَ تركتني أو بأيّ طريقةٍ تركتني؟! .. بل قالَ :” لماذا ” ؟ .. لا أريدُ أن أدخلَ في إجتهاداتٍ فكريّة تخرجُ عن نطاق التأمل المتواضع هذا، بل إعطاء نفحاتٍ روحيّة لاهوتيّة للكشف العظيم لوجه الآب ولحقيقة الإنسانيّة..
هناكَ قفزةٌ نوعيّة في الإيمان، قفزة في النضج المسيحيّ، دعوةٌ للإدراك ، بعمق، أنّ الإيمان هو جديّ ، مغامرة، قرار، مسؤولية، تقع على عاتقي أنا، ولقد وقعت أوّلًا على عاتق يسوع فوق الصليبْ (أي، نقدر أن نصفها: في قمّة الألم والبؤس والترك وأمواج العالم المتضاربة، وهمجيّة بعض البشر) أعطى يسوعُ سببًا كافيًا لمشكلة البشر مع الله/ وهي: ما هو مصيري أمامَ الألم والموت ـ لماذا تركتني؟؟!
صورتي الإنسانيّة مشوّهةٌ، أصبحت في الحقيقة، لا شيء أمام العالم.. لماذا؟ أين صورة هو الإنسان الحقّ هنا.؟! أين صورة الله في لحظة الصليب والموت؟؟!
نداء وجواب الآب، والكشفُ الحقيقيّ لهُ، سيكون، أو بالأحرى سيخرجُ من أعماف الجحيمْ (انقطاع من جهةٍ – وتواصلٌ من نوع آخر من الجهة الآخرى العميقة) حوارٌ مع الوحشة المطلقة وأيقاظ ما كان ساكنًا جامدًا. وتحرير للخروج من ظلمة القبر الإنسانيّ والموت لتجديد روح الإنسان الذي كانَ في سباتٍ نائم، كنوم آدم في جنّة عدن..! إلّا أنّ تحرّك الله الآب من صمتهِ وخروجه ، القى يده على الإنسان وأيقظهُ من سباتهِ كاشفا له حقيقته : الله – الآب – الحنون – الخالق.. وهنا نرى، في صورة آدمْ، صورة آدم الجديد : يسوع .. القائم من الموت من الرقاد، ولا ينفى هذا حقيقة وتاريخيّة موت يسوع على الصليبْ.. لكن ، في الصليب (المحبة اللامتناهية للآخرين، والعطاء المطلق ) دون الصليبْ والعطاء والمحبّة المطلقة، لا كشفَ لله ولا حياة، بل يبقى في مصافّ الميّت والزوال…
لهذا ، فيسوع فقط، يجيبُ على سؤال: لماذا؟ يسوع القائم من القبر (قبر اللامعنى – واللاشيء – والعدم وعدم الفهم واللغز العصيّ) هو الحرّ والواعي والمسؤول المتحرّر من المادّة الأرضيّة ورافعها إلى المجد، متحرّر من المكان والزمان، لانه أصبح قادرا على الدخول في علاقات مع الآخرين وهو سيّد الخلق والتاريخ لانه ” محبّة معطاءةٌ” هو الإنسان الكامل المطلق والمقياس ، أنه “بهاء الصورة وتألّقها”.