إنّ الرغبةَ في فهم الذات ، من خلال العودة إلى الأصول، ليست نوعًا من اللعب الصبيانيّ ، لإن لأمر يتعلّق بمعنى الوجود الإنسانيّ، وبعلاقته بالألوهة ، وبنوع من الرجاء. وإذا ما أظهرت قراءة النصوص القديمة هذا البُعد (أي نصوص الشرق القديم لا النصوص الكتابيّة في سفر التكوين) فانه يُصبح من المتعذّر أن نرى في النصوص الكتابيّة صورًا من الخيال الشعبيّ فقط أو أن تتمّ معارضة تلك النصوص بتصوّر علميّ للعالم والإنسان.
القاعدةُ الأولى لقراءة هذه النصوص ، هي بأن تؤخذ النصوص على محمل الجدّ، أكانت كتابيّة أم لا ، وألا تُعتبر محاولات لا فائدةَ منها أو تخطّاها الزمن، وغير قادرة على أن تمدّنا بالمعرفة. فعندما نأخذُ الأسطورة على محمل الجدّ كطريقة تفكير في البدايات، نستطيعُ أن نرى فيها عونا على قراءة الفصول الآولى من سفر التكوين بعين متفحّصة، ممّا يدفع بنا إلى عدم معالجتها بأفكارنا المسبقة أو إعتراضاتنا.
من الأمثلة على عدم أخذ نصّ تكوين 2 – 3 على محمل الجدّ هو أن نجعلَ منه قصّة ساذجة بعض الشيء، موضوعها التفاحة ! . إذ إنّ النصّ يعبّر عمّا هو هامّ في علاقة الإنسان بالله. فلا ينبغي أن ننسى ما يقوله نصّ الكتاب: فالأمر يتعلّق بأكل ثمرة شجرة المعرفة، في وقت يُستخدم فيه موضوع الأكل، وهو فعل يرتبطُ بالحياة، في تثنية الأشتراع (8 ، 3)، للتذكير بأنّ الإنسانَ لا يحيا بالخبز فقط، بل بكلّ كلمةٍ تخرجُ من فم الله ؛ وما يخرجُ من فم الله هو شريعة سيناء (راجع متى 4 : 4 ).
ومن الأمثلة الأخرى أيضا، التي تدلّ على عدم الجديّة ، هو في إعتبار نصّ تكوين 2 – 3 رواية الفردوس وعن الإنسان المتحرّر من العمل. فإذا كان هذا النصّ يشدّد على عطف الله بإنه وضع الإنسان في البستان، فإن الله وضع الإنسان فيه لكي يحرسه ويحرثه، كما أن البستانَ هو جزءٌ من الأرض. أما يجبُ علينا هنا أن نرى، إلى حدّ ما ، أن البستانَ هو رمزٌ لأرض الميعاد؟ فالنصّ الكتابيّ لا يعيدنا إلى ماض صعب المنالْ. بل يفتحُ أمامَ الإنسان آفاق المستقبل في هذا العالم.
إنّ النصّ الكتابيّ يسعى إلى فهم مصير البشريّة في مواجهة الإله الحيّ، الذي ظهرَ لموسى. فلا إدراكَ للنصّ المقدّس، إلا في إطار الكتاب المقدّي ككلّ، أي في إطار إختبار إسرائيل الإيمانيّ.
هذه الكلمات لــ “جاك بريّان ” مقتبسةٌ من كتاب (خلق الإنسان والعالم في نصوص من الشرق الأدنى القديم – نقله إلى العربية الأب سليم دكاشاليسوعيّ– دار المشرق ، بيروتْ : المقدّمة ص8).
كانت هذه الكلمات، أضواءٌ فقط على الموضوع وعلى كيفية قراءة النصوص الكتابيّة في سفر التكوين وخاصة، وهي مهمّة جدّا، والأهمّ مراجعة هذه المعطيات في الشرق القديم ومعرفة كيف كانوا يفكّرون وينظرون للإنسان وللعالم، لا غرابة في الأمر أبدًا إن تطرّقنا إليها ودرسناها فهي من تراثنا الإنسانيّ القديم .. وليسَ موضوع شكّ وحذر ، إن قرأ المرء هذه الكتابات القديمة ، والأساطير ، للكتاب المقدّس ؛ كأن نخرج أخيرًا بانطباع ، ويؤخذ كلزمةٍ وحجّة بيد غير المسيحي بإنّ كتابنا المقدّس ما هو إلاّ أسطورة من الأساطير..! .. كلاّ: ليس الكتاب المقدّس أسطورة من الأساطير بل هو من وحي إلهيّ ملهم ، يعيش في واقع الإنسان الحيّ وليس خارجًا عنه ومن فوق رأسه. وهذه هي عظمة الكتاب المقدّس.. فلا خوفَ من البحث والمعرفة لإن العقل من صُنع الله ، وأعطانا المعرفة كي نتعلّم ونتفحّص كلّ شيء بحكمةٍ ومحبّة خلاقتينْ.