السوريون المسيحيون: "اترك أرضك وعشيرتك إلى الأرض التي أريك" (2)

ج-خوف المسيحيين هونتيجة قرن كامل من أزمات الهوية.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

أطلقت الحرب العالمية الأولى رصاصة الرحمة على أنموذج الامبراطورية المتعددة القوميات بسقوط الامبراطوريتين العثمانية والنمساوية-الهنغارية لتفتح المجال أمام ظهور نموذج الدولة-الأمة ونشوء دول عديدة على أنقاض هاتين الامبراطوريتين بعد نضال دام عقودا من أجل “الاستقلال”(اليونان ودول البلقان) . النهضة العربية في القرن التاسع عشر لم تكن بعيدة عن تلك التيارات ولو انقسم مفكروها بين من طالب باستقلال العرب التام ومن مطالب بالحفاظ على الهوية العربية ضمن المظلة العثمانية.

لم يلتقط العرب أنفاسهم بانتهاء الحرب العالمية الأولى حتى اكتشفوا ما كان يحاك لهم من مخططات ووجد العرب أنفسهم بين ليلة وضحاها تحت “وصاية” لم يطلبوها .

المرحلة الأولى من النضال ضد الانتداب الفرنسي (العشرينات من القرن الماضي)  اتسمت بالعمل المسلح والثوري كان رواده في أغلبهم من سكان الريف السوري من حارم إلى جبل الدروز. هذه التحركات قمعها الفرنسيون بشدة . عندها دخل النضال السوري ضد الفرنسيين في الثلاثينات المرحلة السياسية واضطلع بهذا الدورالبرجوازية التقليدية في المدن من ملاك الاراضي وأصحاب الفعاليات الاقتصادية. هؤلاء هم من تم على يدهم وضع اللمسات الأخيرة لاستقلال سورية في الاربعينات.

الخمسينات كان عقد الغليان للأيديولوجيات التي كانت تختمر في العقود السابقة : البعث والقومي السوري والشيوعي مع وجود التيارات الاسلامية .

الوحدة مع مصر كانت المسمار الأول الذي دُقّ في نعش الحياة السياسية السورية دون أن نضفي على العقود السابقة أية مسحة مثالية. فالأحزاب حُلت والنظام البوليسي ضيق هامش أي تحرك سياسي. في فترة الوحدة هذه هاجر العديد من أصحاب رؤوس الأموال إلى الخارج وخاصة  لبنان نتيجة القوانين الاقتصادية الكارثية التي أصدرها عبد الناصر . العديد من هؤلاء كانوا من المسيحيين.

الستينات كان عقد “البلاغ رقم واحد” الذي عاد فيه السوريون إلى “النشاط” الانقلابي الذي عرفوه 3 مرات سنة 1949 وما صاحب ذلك من فشل سياسات التصنيع و”الإصلاح الزراعي” وما رافقها من هجرة إضافية للعقول ورؤوس الأموال .

وضمن هذا المد الموصوف بالقومي والاشتراكي من قبل المدافعين عنه تم تأميم المدارس “الأجنبية” عام 1967 . هذه المدارس التي كان  يديرها رهبان كاثوليك في أغلبهم والعديد  منهم من المرسلين الأجانب والتي  تخرّج منها نخبة المجتمع السوري الذي قاد البلاد إلى الاستقلال لم يعد وجودها مقبولا ضمن أيديولوجيات اللون الواحد التي تحملها أحزاب ذات خطاب متخشب وصلت إلى الحكم بدبابة العسكر .

الرخاء الاقتصادي الذي أصاب البلد في السبعينات وأزمة البترول الاولىبعد حرب تشرين وتضامن العرب مع دول المواجهة كان قصير الأمد مع انفجار الصراع بين السلطة والإسلاميين في نهاية السبعينات.

وسط كل هذا الغليان السياسي وإفلاس المشاريع الإيديولوجية غير الإسلامية  حاول المسيحيون كالعادة الحفاظ على ولائهم للدولة-المؤسسة كضامن وحيد للسلم الاجتماعي لكن نجاح النظام الحاكم في تماهي  الدولة- النظام بالدولة – المؤسسة وجعلهما واحدا أظهر  المسيحيين بمظهر الموالين “على الغميضي” لكل ما تقوم به  السلطة .

الفراغ السياسي والسلطوي هوما يخشاه المسيحيون إذ ليس في جعبتهم مشروع بديل جاهز مع بناء أيديولوجي متين بعكس المشروع الإسلامي .

الأزمة التي اندلعت في سورية عام 2011 ما هي الإ حلقة من سلسلة طويلة من أزمات نتجت عن عدم تحديد الهوية التي تربط المواطنين بعضهم ببعض .

وسط كل هذا التخبط وأمام ثقافة بعيدة عن عقلية المليشيات و”وحدات الحماية الشعبية” كان أمام المسيحيين خيار من اثنين : البقاء وتحمل ما يتحمله الباقون وقد ساهم العديدون منهم في إنشاء  مراكز إغاثة  في زمن قياسي مع توافد النازحين  مستعينين بسابق خبراتهم في مؤسسات الكنيسة الاجتماعية , أو الرحيل أسوة بكثيرين غيرهم .

في هذا السياق يبدو استجواب المسيحيين عن أسباب رحيلهم واتهامهم الظاهر أو المبطن بعدم الانتماء لا يكشف إلا نصف الحقيقة . النصف الآخر تتم معرفته باستجواب وإعادة قراءة تاريخ المنطقة منذ الفتح الإسلامي . هجرة المسيحيين لا يتحمل مسؤوليتها المسيحيون وحدهم ,هذا إن لم يتحمل الآخرون المسؤولية الأكبر بحكم أغلبيتهم العددية وسيطرتهم على مفاصل  الحكم, على الأقل الاجتماعية منها والاقتصادية.

إن اتخاذ سلوك المسيحيين في الأزمة الحالية (والذي هو عرض أو نتيجة وليس سببا) منظاراً أوحد لقراءة  ألفي سنة من التاريخ هو خطأ منهجي لا بد أن يقود إلى  خطابات طائفية الطابع الجميع في غنى عنها .

إن موضوع الوجود المسيحي في سورية متشابك ويحتاج إضاءات متعددة من شتى العلوم الإنسانية من التاريخ إلى الأنثروبولوجيا إلى علم الاجتماع الديني وكاتب الأسطر السابقة لا يدّعي أي اختصاص فيها.  

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

Ibrahim Haskour

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير