نشكر ونهنئ مركز اللقاء للدّراسات الدينيّة والتراثيّة في الأرض المقدسة، لهذه المبادرة حول زيارة البابا بولس السادس التاريخيّة وزيارة قداسة البابا فرنسيس المقبلة. كانت زيارة البابا بولس السادس، زيارةً مميّزة، بكل ما تحمل هذه الكلمة من دلالات، كونه أوّل بابا يزور الأراضي المقدّسة منذ عهد القديس بطرس، وأوّل مرة يخرج فيها بابا روما من ايطاليا منذ عام 1812، وأوّل بابا يسافر بالطائرة، كما كان أول بابا يلتَقي بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس منذ عام 1439، في زمن انعقاد مجمع فلورنس.
وتمرّ اليوم خمسون سنة على هذه الزيارة، وقد تغيرت بعدها حدود جغرافيّة وسياسيّة. فَتَوَسَّعت خارطة الإحتلال، وشهدت المنطقة تقلبات انتشرت على اثرها ثقافة العنف والحرب، فزاد الخوف، وغابت عن الساحة الثقة بين القادة وشعوبهم.
ولمّا لم يكن آنذاك الإعتراف بدولة اسرائيل من قِبَل الكرسي الرسولي، لم يقبل البابا بولس السادس الدخول إلى اسرائيل من بوّابة مانديلباوم (Mandelbaum)، اذ سمع مسبقاً بخطاب اسرائيل ترحب به في القدس “كعاصمة لدولة اسرائيل”.
لذلك، قرر البابا بولس السادس حينها الدخول من منطقة جنين، وعلى الرغم من تأكيده أن زيارته كانت رمزيّةً روحيّةً فقط، فإنّ مضامينها السياسيّة كانت واضحةً كذلك، حيث لَم تَدُم زيارَتُهُ لإسرائيل إلاّ نحو 11 ساعة فقط، رفض فيها مقابلة الحاخام الأكبر مئير لاو، وتحاشى زيارة القدس الغربيّة، وأصرّ على أن يقومَ رئيس الدولة زلمان شازار، ورئيس حكومته ليفي أشكول بلقائه في مجيدو، شمال فلسطين. ومن الجدير بالذكر كذلك أنّ البابا بولس السادس لم يذكر في رسالة الشكر التي أرسلها إلى شازار في تل أبيب لا القدس، ولا كلمة “رئيس”. كما لم يذكر كلمة “إسرائيل” أبداً خلال زيارته، وتحاشى أيضاً استخدام كلمة يهود.
من هو البابا بولس السادس؟
ولد جيوفاني باتيستا أنطونيو ماريّا مونتيني (Giovanni Battista Antonio Maria Montini) عام 1897. وعمل كسكرتير لمجلس أساقفة ايطاليا، ثمّ خدم في رئاسة وزارة الفاتيكان ما بين عامي 1922 و1954. كان أقرب الناس لقداسة البابا بيوس الثاني عشر، وأعرفهم بخفايا وتشعّبات القضيّة الفلسطينية. ثم أدار السدّة البطرسيّة ما بين عامي 1963 و 1978. وإلتقى خلال سنيّ حبريته مع بطاركة الأورثوذكسية، ونَذكُر على وجه الخصوص اللقاء الذي تمّ في القدس عام 1964، بينه وبين البطريرك المسكوني أثيناغورس واللقاء الذي تحدَّدَ في القسطنطينية عام 1967. وفي عهده أيضاً أُطلق على الكنائس الشرقية لفظ الكنائس الشقيقة. وتمّ رفع الحرمان الذي تبادلته الكنيستان عقب الإنشقاق الكبير في عام 1054.
وفي سنة 1973، زار البابا شنودة حاضرة الفاتيكان والتقى ثلاث مرّات مع البابا بولس السادس، الذي كان أول بابا يستقبل رئيس اساقفة كانتربيري (Canterbury)، ميخائيل رمزي، سنة 1966.
لم تلغ هذه اللقاءات الإنقسامات بين الكنائس، ولكنها خلقت نوعاً من الصداقة والحوار والرغبة في المصالحة. وبحق، يمكننا أن ندعو البابا بولس السادس بابا الحوار واللقاء والرغبة في الوحدة.
من ناحيتي، أستذكر هذه الزيارة البابويّة بفخر عظيم. وهنا أودّ أن أُسَجّلَ مُلاحظتين:
الأولى أن الشخص الذي زارَ الأرض المقدّسة قد عاش علامات أزمنة كبيرة. وأولها العمل على المصالحة والتصافي. وكم يحتاج عصرنا اليوم إلى أشخاص كفوئين كبولس السادس، قادرينَ على العمل اليومي من أجل المصالحة. وأن أرضنا المقدسة لا زالت عطشى إلى نداء البابا بولس السادس في الأمَم المتحدة في (4/10/1965): “لا حربَ بعد اليوم… في الحرب لا خاسر ولا رابح، الكلّ خاسر”. وهذا النداء هو ذاته الذي تكرَّرَ على لسان الحبر الأعظم البابا فرنسيس في قيادته لأكبر حملة تاريخية مناهضة للحرب والدمار في سوريّا. حيث كرّرَ ذات الكلمات التي نطق بها الحبر الأسبق بولس السادس. نعم، ما زال عالمنا، وما زالت منطقتنا، بحاجة يوميّاً إلى المحبّة والعدل والمصالحة بين الشعوب وقبل ذلك بين القلوب.
وثانياً إن استذكار الأرض المقدّسة لزيارة حجٍّ تاريخية للبابا بولس السادس، وعقبها زيارتان مشابهتان، والثالثة على الأبواب، هي دعوة للمزيد من التنسيق والتعاون من أجل تجديد النداء إلى كلّ شعوب الأرض، بقياداتها السياسيّة والدينيّة، وبمواطنيها، لزيارة الأرض المقدسة، والتعرّف على حجارتها الحيّة، قبل حجارتها الصمّاء. نعم، إنّ أرضنا المقدّسة، مثلما هي عطشى إلى المحبّة والوحدة والسلام والعدالة والتحرر، هي كذلك عطشى لرؤية كل المؤمنين في زيارة حجّ وصلاة.
ثمار زيارة البابا بولس السادس
بعد زيارة قداسة البابا عام 1964، رأت النور عدة مؤسسات كثمار للزيارة، بدعم من البابا بولس السادس نفسه، الذي وقف على الإحتياجات الرئيسيّة لسكان الأراضي المقدسة. ومن هذه المؤسسات: جامعة بيت لحم ومؤسسة افِّتا (Effeta) ومعهد الطنطور المسكوني وبيت ابراهيم.
الثمار المتوقّعة من زيارة قداسة البابا فرنسيس
إنّنا نتوقع أيضاً ثماراً نتيجة لزيارة قداسة البابا فرنسيس المرتقبة:
1. فرغم أن الزيارة ستكون زيارة حجّ وصلاة وحوار، إلا أنه لن يغيب عنها البعد السياسي. ومن المؤكد بأن قداسة البابا سيركز خلال لقاءه مع البطريرك برثلماوس على مسألة الوحدة، وحدة المسيحيين، والشركة فيما بينهم. من هنا، فإن الشعار الذي تمّ اختياره لهذه الزيارة، “ليكونوا واحداً”، يشكل دعوة وبرنامج عمل موجه إلى جميع سكّان الأرض المقدّسة، مسيحيين ومسلمين على حدّ سواء.
2. من المؤ
كد بأن قداسة البابا سيتطرق في خطاباته إلى الوضع في سوريّا، وإلى أوضاع اللاجئين، خاصة السوريين منهم في الأردن.
3. نتوقّع أيضاً ألاّ تخلو خطاباته من الدعوة إلى احلال السلام والعدل في بلادنا، تطبيقاً للشرائع الدوليّة. وإن الزيارة القصيرة الخاطفة التي سيقوم بها إلى مخيّم الدهيشة، تُذَكِّرُه ونحن معه، دوماً بقضيّة فلسطين. قضيّةٌ رأينا لها بداية ولا نرى لها نهاية.
4. أخيراً، نُعَلَّق الكثير من الآمال على لقاء قداسة البابا فرنسيس مع جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، ومع السلطات الدينيّة الإسلاميّة، في عمّان. ونرى في زيارته التي سيقوم بها إلى الحرم الشريف دلائل واضحة على ضرورة الحوار الديني، وضرورة السير معاً يداً بيد.
5. نتأمل أن تُقَدِّرَ اسرائيل هذه الزيارة وأن تقوم بمبادرة حسن نيّة في أمور انسانية، يعاني منها الفلسطينيون ومنها لمّ شملِ عائلات كثيرة مازالت تعاني بسبب عدم تطبيق حقٍّ لَمِّ الشمل الذي تنص عليه معاهدة جنيف. ويجب أن يشمل هذا القرار الشعب الفلسطيني بكل شرائحه.