عندما نتكلّم عن الحبّ ، نعني به ، بصورة مطلقة : المحبّة . فالحبّ هو المحبّة وليس لذّة عابرة . يقولُ جورج دوهاميل : ” قيّم ثروتك بمقدار ما تُعطي ” . الحبّ ، هو النزعة إلى فعل الخير بتجرّد وبمنأىء عن المصلحة الذاتيّة . إنها الفضيلة اللاهوتيّة الثالثة (بعد الإيمان والرجاء ) . إنّها التجديد الأكبر الذي جاءت به المسيحيّة . ولا نستطيعُ أن نفصل أيضا بين الحبّ والإيمان .
لنقرأ ونصغي لهذا الحوار الجميل بين الكاتب الفرنسيّ المعروف جان جاك أنتييه وبين الفيلسوف الفرنسيّ الشهير جان غيتّون حول الحبّ .
– أنتيبه : من أين ينشأ الحبّ ؟ وهل هو ينشأ فقط من الغريزة البهيميّة كما يدّعي فرويد ؟ أنا لا أستطيع أن أؤمن بهذا الرأي . فهل هو ينشأ من مكان آخر ، وما هو ؟
– غيتّون : في سفر نشيد الأناشيد ، هذا النشيد العشقيّ التائه في العهد القديم ، يرى اليهود والمسيحيّون رمزا إلى الحبّ الإلهيّ ، وكأن لا وجود إلا لحبّ واحد . وقد استوضحت في ذلك هنري برغسون (فيلسوف فرنسيّ 1859 – 1941 ، دافع عن الروحانيّة ضد المذاهب الوضعيّة والماديّة ، وكان له تأثير بالغ على مفكّري عصره ، الذي كان يعارض نظريّة فرويد ) ، وهو يرى أن الأقدمين لم يكتنهوا ملء معنى حبّ الرجل والمرأة ، هذا الحبّ الزوجيّ ، اللاتعدّدي ، الذي اكتشفته المسيحيّة .
لابدّ ، إذن ، من معرفة ما كان في ” البدء ” ومن أين يتدفّق الحبّ على الأرض. ويقول برغسون : في نظري ، لم يكن الجسد هو البادئ بل الروح . لم يكن الحبّ الجسديّ هو الأوّل ، بل ، على نقيض ذلك ، الحبّ الإلهيّ . ولكن استقى الصوفيّون عباراتهم من عشّاق الأرض ، فهم إنّما يستعيدون ما يخصّهم ” .
– أنتييه : ولكنّك لم تُعرّف الحبّ .
– غيتّون : الحبّ ، هو تسام ٍ هادئ للإرادة التي تتّحد بما ترغبُ فيه ، وتتمتع به مسبّقــا . ولكن ، الحبّ ليس إمتلاكـــًا ، بل قد يكون البُعد والحرمان والبحث الحائر ، من العوامل التي تغذّي الحبّ . هذا يُدخِل قسطا من الألم في تكوين الحبّ . فحتى الإمتلاك في الحبّ ، لا يحول دون الألم من عدم إمتلاك المزيد ، ومن التطلّع إلى إلى التوغّل في الإمتلاك ، غير أن الحبّ ، أيضا ، ينطوي على فرح ، وعلى متعة ، ولكأنّ المرء ينعم ، هنا ، بما يرغب فيه.
– أنتييه : هل ينبغي أن نسمّي ، حقّا ، حبّا تلك النزعة التي تدفعنا إلى التمتّع بالآخرين ، أو ، على نقيض ذلك ، إلى تضحية ذواتنا من أجلهم ؟ ثمّة نمطان ِ من الحبّ ، ولا بدّ من التمييز بينهما ، بإستخدام لفظتين متباينتين : الشهوة ، والمحبّة .
-غيتّون : الشهوة هي رعشة الغريزة الجنسيّة . حبّ الشهوة هذا لا يستهدف سوى مصلحته ، ويلتمسُ ” المتعة ” أكثر من إلتماسه ” الفرح ” . إنه لا يحبّ الآخر حقّا بل يحبّ ذاته من خلال علاقته بالآخر . إنحراف الحبّ هذا الذي يخاطب حواسّنا ، ينمّ عن شهيّة شاذّة إلى ” المحسوس ” . هذا النمط من الحبّ ، في سبيل الذات ، يتجلّى في شتى العلاقات . أمّا المحبّة ، فهي ، على النقيض ، تدفعنا نحو آخر ، وإلى التمتّع بما يصيبه من خير ٍ وإلى تخيّل كلّ ، نحنُ منه جزءٌ ، فحسبْ .
– أنتييه : إذن ، كيف ينبغي أن نحبّ ؟
غيتّون : كي نحبّ علينا ، أن نُقيم ، منذ البدء ؛ في نهاية الشوط ، وأن نمتلك المستقبل الذي لم يحضر بعد . الحبّ إذن ، يتضمّن الإيمان والرجاء . إنّ الحبّ يتجسّد في ارتباط الرجل والمرأة . هذا الأسلوب في تمنّي ما لا نملكه ، وفي التماهي معه ، بفضل نوع ٍ من الفتنة ينطبق ، تقريبًا ، على كلّ شيء ، حتى حبّ الذات . أمّا الحبّ السامي ، فهو ابتغاء الكون في أفضل حال ٍ ، والإتّحاد ، مسبّقا ، بما سننتهي إليه .
إذن ، لقد رأينا في الحوار الممتع هذا : الحبّ والألم – الحبّ والإيمان – الحبّ والعطاء – الحبّ والشهوة . الوجه الآخر من الحبذ هو ألم وصراع ، ليس لإن الحبّ ، من طبعه ، سلبيّا ، بل ولإنه إيجابيّ ، فهو ” ألمٌ وحرمان ودخول في طريق معاكس لطريق العالم ” الذي يبحث على مصالحه الذاتيّة فقط . وأيضا : الحبّ إيمانٌ . فالحبّ هو إيمان بالحبّ الأصليّ المطلق ، والسير بثقة ٍ في طريق ، نعرف مسبقا أنها ” وعرة ” مليئة بالمطبّات والتعرجات والأشواك ، إنه ظلامٌ منير كما يقول الآباء الروحانيّون . إنه نظرٌ للماوراء وليس للآنية الحاضرة السريعة الزوال (إعجابٌ مرضيّ ) . وإنه ، أيضا ، العطاء الباذل ، والتخلّي ، والإنفتاح على الآخر ، وعدم الإمتلاك المرضيّ .. وأخيرًا وليس آخِرا : ليس الحبّ (المحبّة ) شهوة ً مرضيّة عابرة ً تقود إلى ” إنغلاق على ماعندي ، وإلي العبث بالآخر ومسحِه ” إنه بناء الآخر وليس هدمه . إنه يقوّي الآخر ويبني كيانه ويُنميه ، ويجعله حرّا لا عبدًا لغرائز تافهة .
الحبّ هو ” البدء ” . يقول الإنجيل بحسب يوحنا في أوّل فصل ٍ: في البدء كان الكلمة …. ” الكلمة الإلهيّة ، الأزليّة ، لا يمكن أن تكون كلامًا مكتوبًا على ورق ، إنه ليس نصوصًا وأرقامًا ، وكلمات ٍ تذاع في الأثير . بل هو : الحقيقة الأزليّة ، الحكمة الأزليّة ، المحبّة الأزليّة ؛ والعطاء الكليّ . فعندما يقولُ الله كلامًا ، فهو ، بذاته ، ” الكلمة ” أي : هو الحقّ والمحبّة والعطاء ، هو الكلام . وعندما يعطي الله ، فإنه لا يعطي ” فتافيت ” بل يعطي ذاته . لإنه إنفتاحٌ كامل وليس إنغلاق ولا فيه ظلّ دوران ولا ضياع .
يتبع