يقول الكاتب اليهويّ ، أنّ للحب قدرة على تحويل الطفل إلى رجل بالغ . فالحب يفتح أفقا للأمان الذي يحبّه الطفل لدى ذويه . المُحبّ يكتشف الحريّة الداخليّة بتطوّعه داخل علاقة جديدة . لذلك ، يمكننا أن نقول : أنّ الحبّ الزوجيّ نفسه هو إمتداد لبعض عناصر طفولتنا ؛ نثق بالحبيب بشكل يجعلنا قادرين ، من أجله ، أن نترك الأب والأمّ ونتعلّق به (تك 2 : 24 ) . لكن هذا النضوج ليس بالأمر السهل ، وهذا ما سنوضّحه .
الحبّ ، ليس أعمى ، كما يقول الكثيرون (إنّ الحبّ أعمى ) … بل العكس هو الصحيح ، أنا هو ” الأعمى ” ، والحبّ هو من يقومُ بوضعي في مكاني الصحيح ، ويسيّرني من خلال ” بوصلة ” ما إلى الإنفتاح وبذل الذات . وهذا الأمر ، طبعًا ، وكما سنرى أيضا ، مغايرًا لما نسمّيه (الإعجاب أو الغرام المرضيّان ) اللذان يؤولان بالشخص إلى عدم علاقة حقيقيّة وإنفتاح ، بل إلى ذوبان وهيام وضياع ووجع الرأس ، وقد يؤدّي إلى مشاكل أيضا .
الحبّ الناضج ، هو الحبّ المبنيّ ، ليس على رمل الغرام والهيام ، بل على صخر المحبّة الإلهيّة . إنها أساسُ كلّ حبّ ، كما رأينا في الحلقات الآولى : الرجل – الله – المرأة . فإنّ الله هو الأساس لثبات ميزان علاقتنا .
لكن ، كيفَ يمكنُ أن يقومَ هذا الرجل ، أو هذه المرأة ، في أن ينضجا في الحبّ ؛ بحيث لا يكونان (كلاهما ) صورة لذويهما . بمعنى : إنّ الحبّ بين الرجل والمرأة لا بدّ وأن يوقض علاقتهما الطفوليّة مع ذويهما (الأبوان ) . لكن كي يتحقّق النجاح في ” ترك ” الأب والأمّ ، لا يكفي مجرّد : ” أحبّها يا بابا وأريدها ، أو أحبّه يا ماما وأريده وإن لم أخذه سأنتحر … إلخ (للفكاهة) . المشكلة هنا : عدم إرتكاز على مبدأ حبّ حقيقيّ واضح وشفّاف ، بل عواطف وغرام مرضيّان . لا يكفي مجرّد الإنفصال عنهما لتأسيس عائلة خاصّة.
” الترك ” هنا يعني التخلّص من التبعيّة الطفوليّة والحاجة إلى الطمأنينة التي يوفّرها الأهل فقط . سرّ الحبّ يكمن في التخلّي عن تدخّل ذلك ” الثالث ” – الأهل ، الذي كان يوفّر كل اللازم . والسؤال هنا : ما الذي يجعل هذا الترك للأهل ممكنــــًا ؟ . من الناحية النفسيّة ، تبدو صورة الأب والأمّ صورة نموذجيّة للرغبة التي تجعلني مقبولا ومستقبلا بصورة تامّة . ومن له رصيد كاف من القبول والإستقبال ليس مستعدّا أن يتخلّى عنه . لكن هذه الحاجة للراحة التامّة ” المطلقة ” لا تجدُ أبدًا جوابا كاملا على هذه الارض ، وقد يميلُ البعض إلى التوقّف عن طلبها من هذا العالم وتحويلها إلى العالم الآخر ، المطلق . أي أنّ الإيمان بالله هو ، في الحقيقة ، التوقّف عن طلب الإطمئنان من البشر حتى إن كانوا أعزّاء علينا ، وتحويل مسار الحبّ ، في هذه الحالة ، إلى وجهة أخرى .
بالإيمان ، يتحوّل نموذج الأب والأم ، حالته المطلقة فيصير الله هو ” النموذج “.
” لا تدعوا لكم أبا على الأرض … ” ، ” أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ قوّتك ، ومن كلّ نفسك ” . أي أن يصيرَ لنا نوعان من الحبّ : حبّ إلهيّ وحبّ بشريّ . هذا التحوّل هو الذي سيضمن ديمومة الحبّ .
إذن ، هكذا سنفهم قصد الكاتب اليهويّ الذي يقول أنّ الإيمان بالله هو طريق النضوج الحقيقيّ الذي يجعل الإنسان قادرًا أن يترك أباه وأمّه ، فيتعلّم نسج علاقة دائميّة بين الرجل والمرأة . وهنا أيضا ، نفهم ، لماذا أسّس يسوع الزواج على الله (مرقس 10 : 11 ) ، قال : إنّ الإيمان وحده يعطي الإحساس بالإطمئنان ، هذا الإحساس الذي يربط شخصين إلى الأبد في هذا العالم .
يتبع