وقد ناهض العهدُ القديم بأقصى شدّة هذا الشكلَ من الديانة، الأشبه بتجربةٍ جبّارة جدّا إزاءَ الإيمان بإله واحد ، وقاومه كانحراف للتديّن . إلاّ أنه، بذلك ، لم يرفض في شيء الغرام بحدّ ذاته ، لكنه أعلنها حربا ضدّ تشوّهه الهدَّام ، لأنّ تأليه الغرام الخاطىء الحاصلَ هنا يحرمه من كرامته ، وينزع عنه إنسانيته . ففي المعبد ، لا تُعاملُ المومسات ، اللواتي عليهنَّ أن يوفّرنَ نشوة الألوهة ، كبشرٍ بل فقط كآلاتٍ لإثارة «الجنون الإلهيّ» : إنهنّ لسنَ ، في الواقع ، إلاهاتٍ ، بل كائنات بشريّة يُعبث بهنَّ . لذلك فالغرام النشوان وغير المنضبط ليس تصعداً ، «انخطافاً» نحو الألوهيّ بل سقطةٌ وانحطاطٌ للإنسان . يتّضح هكذا أنّ الغرام بحاجة إلى انضباط ، إلى تطهيرٍ كي يمنح الإنسان لا السعادة للحظةٍ ، بل نوعاً من الشعور المسبَّق بقمّة الوجود والسعادة التي يتوق إليها كياننا برمّته .
إذن ، يتبيّن لنا بجلاءٍ مظهران ، وجود بعض العلاقة بين الحبّ والألوهيّ : الحبُّ يعد باللانهائيّ ، بالأبديّة – وهي حقيقة عظمى ومغايرة تماماً لواقعنا اليوميّ . لكنه تبيّن في الوقت عينه أنّ السبيل نحو مثل هذا الهدف لا يقوم فقط بالاستسلام لسيطرة الغريزة . فالتطهير والنضج ضروريّان ؛ وهما يمرّان أيضاً بطريق التجرّد . لا نجد في ذلك رفضاً للغرام ، ولا «تسميماً» له ، بل شفاءً بقصد عظمته الحقّة .
وهنا يقول البابا بنديكتوس : يبلغ الإنسان حقّاً ذاته عندما تتوثّق أواصر الوحدة بين الجسد والنفس ؛ وعندما ينجح ذلك التوحيدُ يُقهر حقّاً تحدّي الغرام . فالغرامُ والإعجابُ ليسا مرضين سلبيّين ، بل هما ، بالسيطرة عليهما ، بتوحيدنا بين الجسد والنفس ، وأيضا بين عقلنا وحكمتنا ، قد يستطيعا أن يوصلاننا إلى معنى الحبّ الروحيّ العميق ، حبّ العشق الجميل بعيدًا عن الغريزة السلبيّة واللذّة الجنسيّة فقط إرضاءً للذات . لا بل ، والأكثر ، بتحدّينا الإعجاب والغرام ، وبقبولنا الإختلاف في الآخر وفي سرّ العلاقة ، نقدرُ أن نجعلَ ، في هذا الغرام بالضبط ، علاقتنا بالله أكثرَ فاعليّة وواقعيّة . فمن خلال هذا الغرام المقبول والسليم ، من دون أيّة صور مشوّهة ، نستطيع أن نكتشف سرّ الله أيضا . الإله الذي كشفَ عن ذاته أيضا أنه ” إلهٌ غيورٌ ” ، إلهٌ عاشق للإنسان ومغرمٌ به حدّ الجنون (أقرأ وراجع سفر نشيد الأناشيد وسفر هوشع بصورة ٍ خاصّة ) . من خلال قراءتنا لهذين السفرين ، خاصّة ؛ ندرك كم أن الله ، هو العاشق الكبير للبشريّة جمعاء ، إنه يريدُ أن يدخلَ في علاقة ” حبّ عميقة ” بالإنسان . فالله ، العاشق ؛ رغمَ أخطاء وزلّات وهفوات وزنى البشريّة ، فهو لا ينظرُ لها أبدًا – لإنه يحبّ – فهو يتجاوزُ هفواتنا وزلّاتنا وخطايانا وكلّ أشكال الزنى ، ويقبلُ بالعلاقة لبناء الإنسان الداخليّ . فما يهمّه المحبّة فقط .
إن الغرام الذي انحدر إلى درك «الجنس» أصبح سلعةً ، ومجرّد «شيء» يمكن شراؤه وبيعُه . والأكثر من ذلك ، إن الإنسان نفسه أصبح سلعة .
يقول البابا بنديكتوس أيضا :
إن الحبَّ – الغرام – يريد أن يرفعنا «في انخطاف» نحو الألوهيّة ، أن يقتادنا إلى ما أبعدَ من ذواتنا ، فلذلك يتطلّب هذا بالضبط طريقاً مصعّداً ، طريقَ تجرّد وتطهير وشفاء . كيف يمكننا أن نتخيّل حسيّاً ذلك الطريق، طريق الصعود والتطهير ؟ سنرى في الحلقة القادمة