رأينا في الحلقة (11) ، إن الحبَّ – الغرام – يريد أن يرفعنا «في انخطاف» نحو الألوهيّة ، أن يقتادنا إلى ما أبعدَ من ذواتنا، فلذلك يتطلّب هذا بالضبط طريقاً مصعِّداً ، طريقَ تجرّدٍ وتطهيرٍ وشفاء .
فكيف يمكننا أن نتخيّل حسيّا طريق الصعود والتطهير هذا ؟
كيف يجب أن يُعاش الحبُّ كي يتحقّق بالكمال وعدُه البشريّ والإلهيّ؟
في نشيد الأناشيد ، أحد أسفار العهد القديم الذي يعرفه جيّداً الصوفيّون ، يمكننا أن نجد إشارة آولى مهمّة . وفقاً للتفسير السائد اليوم، إن الأناشيد التي يتضمنها هذا السفر هي بالأساس أناشيدُ حبّ، وُضعت لربّما لعيد أعراس يهوديّة كي تُشيدَ بالحبّ الزوجيّ . في هذا الإطار ، إن مجرّد وجود كلمتين مختلفتين للحديث عن «الحبّ»، في هذا الكتاب، لمفيدٌ جدّا . لدينا أولاً كلمة «دوديم» dodim ، بصيغة الجمع للتعبير عن الحبّ الذي ما زال حائراً ، في وضع بحث مبهم متردّد . ثم استعيض عن هذه الكلمة ، في ما بعد ، بكلمة «أحبَّ» ahabà . التي عبّرت عنها، في الترجمة اليونانيّة للعهد القديم، كلمة «محبّة» (agapè) ذاتُ النغم عينه ، والتي أصبحت التعبير المميّز للمفهوم البيبليّ للحبّ . بالتعارض مع الحبّ المتردّد الباحث الحائر ، تعبّر هذه الكلمة عن اختبار الحبّ الذي ما يعتّم أن يصبح اكتشافاً حقيقيّاً للآخر، يتجاوز إذاً الطابعَ الأنانيَّ السائدَ بوضوح في السابق . يصبح الحبُّ الآن اهتمامًا بالآخر ومن أجل الآخر . لا يبحث من بعدُ عن ذاته – الغوص في نشوة السعادة – بل على العكس من ذلك ، إنه يبحث عن خير الحبيب : فيصبح تجرّدا ، واستعدادًا للتضحية ، وحتى إنه يبحث عنها .
يشكّل ذلك جزءا من تطوّرات الحبّ نحو درجاتٍ أسمى ، نحو تطهيراتٍ عميقة للحبّ الباحث الآن عن طابعه النهائيّ ، وذلك بمعنىً مزدوج: معنى الطابع الحصريّ – «هذا الشخص وحسبُ» – ، وبمعنى الواحد «إلى الأبد». يحوي الحبُّ كمالَ الوجود في كلِّ أبعاده ، بما فيه بعدُ الزمن . ولا يمكنه أن يكون غير ذلك ، لأن وعدَه يهدف إلى ما هو نهائيّ . الحبُّ يهدف إلى الأبديّة . نعم ، الحبُّ «انخطاف» ، لكنه انخطاف لا بمعنى لحظة نشوة ، بل انخطافٌ بمعنى طريق ، بمعنى خروج دائمٍ ينطلق من الأنا المغلق على ذاته إلى تحرّره بعطاءِ الذات، وهكذا بالتحديد نحو اكتشاف الذات ، والأكثر من ذلك نحو اكتشاف الله: «من طلب أن يخلّص نفسه يُهلكها؛ ومن أهلكها يحفظها» (لو 17: 23)، قال يسوع – وهذا يمثّل تأكيدا من تأكيداته الواردة في الأناجيل بعدّة أشكال (را متى 10: 39؛ 16: 25؛ مر 8: 35؛ لو 9: 24؛ يو 12: 25). يصف يسوعُ هكذا طريقه الشخصيّ ، الذي يقوده بالصليب إلى القيامة ؛ إنه طريق حبّة الحنطة الواقعة في الأرض فتموت وتعطي ثمة ثمرا وافرا . لكنّه يصف أيضا بتلك الكلمات جوهرَ الحبّ والكيان البشريّ عمومًا ، انطلاقا من محور ذبيحته الشخصيّة ومحور الحبّ الذي يبلغ فيه إلى الكمال .
في اللاهوت المسيحانيّ (علم الكريستولوجيا) ، ندرسُ موضوعًا مهمّا جدّا ألا وهو : اللاهوت النازل واللاهوت الصاعد ، أو الأسلوب النازل والأسلوب الصاعد . أي أنّ ليسوع طبيعتين “نازلة” – الكلمة ، ابن الله يصيرُ إنسانــًا ” و ” صاعدة ” – الإنسان التاريخيّ الناصريّ يسوع بكلّ ما عاشه ، تظهر ، في سرّ القيامة ، حقيقته الإلهيّة ” . النازل هو (ابن الله يصير إنسانا ) ، والصاعد (ابن الإنسان والبشر هو الله ) . هنا، لدينا في لاهوت الحبّ أسلوبان أحدهما صاعد والآخر نازل . فما معنى هذا ؟ وهنا ، نحن لا نعطي تشبيه ٍ للموضوعين ، بل أعطينا مثالا فقط ! .
يتبع