رؤيتى لـ«القرن الحادى والعشرين» المطلق والنسبى عند سكاتوليني

اذا كان الأب الدكتور جوزيف سكاتولين ملتزماً بإحداث ثورة دينية فهو بالضرورة فى وضع مخالف. ومخالفته كامنة فى مفهومه عن المطلق.فهو على غير المألوف قادر على الحوار مع المطلق، إلا أن هذه القدرة تشترط موافقة المطلق ذاته، وهذه الموافقة بدورها تشترط أن يكون القادر على الحوار فى حالة صوفية، أى يكون متصوفاً. وبهذا المعنى فإن الحوار بين الأديان لن يستقيم إلا إذا كان المتصوف هو أساس ذلك الحوار

Share this Entry

 وإذا كان ذلك كذلك فليس فى الامكان إجراء الحوار استناداً إلى المعانى الحسية الظاهرية للنصوص الدينية بل استناداًإلى ارتباطها خفية بمصدرها الأساسى وهو المطلق. ومن هنا فإن تعريف سكاتولين للإنسان هو أنه «الحاج نحو المطلق» دون اللقاء معه. أما إذا حدث والتقى الانسان بالمطلق فإنه يصبح، فى هذه الحالة، مشاركاً فى مطلقية المطلق وبالتالى يصبح خليفة على مخلوقاته.

وليس ثمة عائق أمام هذا الانسان الحاج سوى الرؤية العلمانية الناتجة من الثورة العلمية والتكنولوجية والتى بمقتضاها أصبح عبداً لها وبالتالى أصبح خالياً من القيم الانسانية. وهنا يصطدم سكاتولين بتناقض يقوم بين هذه الثورة من جهة والتقاليد الدينية من جهة أخرى. فقد امتدت هذه الثورة إلى الكون فارتأت أن ثمة نقطة بداية فى نشأته وهى التى تسمى بـــ «الانفجار العظيم». وكان من شأن هذا الانفجار أن أصبح الكون فى حالة تمدد بلا توقف اختفت معها الملائكة التى كانت تحدث تأثيراتها على سكان كوكب الأرض، وقد حاول أينشتين البحث عن بديل للملائكة فوجده فى «المجال الموحِد».ومن سمة هذا المجال أن يكون مؤسساً لرؤية كونية علمية. وارتأى بعد ذلك أن من شأن هذه الرؤية العلمية أن تحدث تغييراً فى المفهوم التقليدى للدين، وهو مفهوم مرَ بمرحلتين:المرحلة الأولى هى تصور الله على مثال الانسان، والمرحلة الثانية هى تصور الله بعيداً عن تشبيهه بالإنسان. أما المرحلة الثالثة فهى الرؤية التى يريدها أينشتين للدين وتتميز ببزوغ الحس الدينى الكوني، وهو حس خال من أى معتقد مطلق يُتخذ منطلقاً لتأسيس المعابد والمؤسسات الدينية. وأظن أن العالِم الجيولوجى واللاهوتى تيار دى شاردان قد استجاب للمرحلة الثالثة فألف كتابا عنوانه «الظاهرة الانسانية».

وأهم ما فيه الفصل الثالث وعنوانه الرئيسى «الأرض الحديثة» وعنوانه الفرعى «تغير العصر»، وهذا التغير يعني، فى رأيه، تغير المحور، أى أن ثمة محوراً جديداً نعبر إليه من المحور القديم. وهذا المحور الجديد يكمن فى لزوم رؤية السماء والأرض فى آن واحد. بيد أن هذا اللزوم ينطوى على تناقض من حيث إن الأرض فى حالة تطور أما السماء فثابتة. ومن هنا تنطوى الوحدة بينهما على توتر بين نقيضين. ومن أجل القضاء على هذا التوتر اندفع تيار دى شاردان نحو الكشف عن علاقة التناغم بينهما الأمر الذى كان من شأنه أن وجد نفسه مضطراً إلى تغيير مفهوم الله بحيث لا يكون هو نقطة البداية بل نقطة النهاية وعندئذ تتحول الكثرة إلى وحدة. وتترتب على ذلك نتيجة ضرورية وهى تأسيس لاهوت جديد يمكن أن يقال عنه إنه لاهوت التاريخ أو لاهوت التطور. وفى هذه الحالة يكون مفهوم الله مغايرا لمفهوم السلطة الدينية. ولا أدل على ذلك من أن بابا روما قد أصدر أمراً بعدم الترخيص لتيار دى شردان بطبع مؤلفاته، كما أصدر أمراً بمنعه من القاء محاضرات فى الجامعات الفرنسية. ومات دى شاردان فى عام 1955 ومؤلفاته مجرد مخطوطات. ومع ذلك فقد ارتأت السلطة الدينية بعد موته بثلاث سنوات بأن نظرياته صالحة لتمكين الكنيسة من المواءمة مع محور العصر. ولا أدل على ذلك من التغيير الذى أحدثه المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى فى عام 1965.

وفى عام 2005 احتفل العالَم بهذا اللاهوتى الثورى فى نيويورك وفى باريس وفى القاهرة بمناسبة مرور خمسين عاماً. وقد دعيت لإلقاء بحث تحت عنوان «أفكار خطرة»والخطورة تكمن فى العلاقة بين المطلق والنسبى أو بين الثابت والمتغير. وقد كنت مهموماً بالكشف عن هذه العلاقة فى كتابى المعنون «قصة الفلسفة» (1968)، ولهذا فقد اغتبطت بأن يكون الأب سكاتولين هو الآخر مهموماً بتلك العلاقة فى كتابه المعنون «تأملات فى التصوف والحوار الدينى».

والسؤال اذن: ما رأيه فى هذه العلاقة؟

جوابه على النحو الآتى: إن المطلق ليس من صنع الانسان ولكنه يظهر للإنسان فى نهاية رحلة الحج على أنه ضرورة ليس فى إمكان الانسان الفكاك منها، ومع ذلك فهذا المطلق مستقل عن الانسان ومنعزل فى تعاليه. وهنا يتساءل الأب سكاتولين: أليس فى إمكان المطلق أن يكون حاضراً فى التاريخ البشري؟ جوابه بالإيجاب مع شرط واحد وهو أن يفرغ الانسان ذاته تماما أمام المطلق لكى يملأه بذاته وحده. وفى رأيه أن العلمانية تقف عائقا أمام هذا التفريغ عندما فصلت بين المطلق والنسبى مع أن حاصل الأمر هو أن النسبى المتغير مرتبط بالمطلق الثابت إلى الحد الذى يمكن القول عنده بأن النسبى هو من تجليات المطلق. واذا امتنع النسبى عن أن يكون كذلك فإنه فى هذه الحالة يسقط فى هوة اللامعنى وفى الفراغ الأخلاقى. ومع ذلك فأنا أظن أن تعريفى للعلمانية من حيث هى «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق «يشير إلى أن ثمة ما وراء «النسبى من غير قنص».

وفى عام 2005 صدر كتاب عنوانه «نهاية عالم اليقين» وفى عام 2008 صدر كتاب عنوانه «كتاب المطلقات».

والسؤال إذن: ما مضمون هذين الكتابين؟

Share this Entry

D. Murad Wahba

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير