وتضع الكنيسة إنجيل المولود أعمى في أحد التناصير؛ إشارة إلى نعمة المعمودية.. حيث جاء المسيح مجتازًا وأعطى نورًا وحياة للأعمى الذي كان يستعطي من بعد المر والشقاوة.. أتاه الذي يهب النظر للعميان؛ والذي يسمع الصُمّ أقواله.. أتاه المسيَّا المنتظر الذي شفى عمى البشرية المعتازة والتي كانت تستعطي. فحقق كمال النبوات، خلق له أعينًا جديدة بذات الخامة والطريقة التي بها جبل آدم في القديم. فمنذ الدهر لم يسمع أحد عن أن أحدًا فتح أعين مولود أعمى.. رأى الأعمى بينما هذا المولود أعمى لم يراه ولم يذهب إليه. أتى إليه الخالق الطبيب ليُظهر عمله ومجده فيه؛ كاشفًا عن أنه نور العالم الحقيقي؛ المرسل ليعمل أعمال الذي أرسله ما دام نهارًا.
جعل الذي كان بلا أعين أصلاً منذ ولادته الأولى يبصر، أعطاه حواسًا جديدة وصحح خلقته؛ ونقله من النقص والعمى إلى الكمال والإبصار.. أمره أن يغتسل بالماء لكي يبصر بقوة الكلمة (بغسل الماء بالكلمة)، أقامه من عماه؛ فماء معموديته يعطي ميلادًا جديدًا بالروح. وفي بركة سلوام (مُرسَل) يستنير من المسيح المرسل والصخرة التي فيها الحياة التي كانت نور الناس.. وقد جعل ماء معموديته لنا جميعًا ماء سلوام الروحية؛ ماء المرسل الذي ينبع إلى حياة أبدية ليهب بصيرة واستنارة واغتسالاً وتقديسًا وتبريرًا لكل من دعاهم ليتبعوه في التجديد؛ وليخبروا بفضائل من غيّر أشكالهم وجدد أذهانهم ودعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب.
تفل وصنع طينًا وطلى بالطين عيني الأعمى؛ لأنه هو خالق جبلتنا وهو الفخاري الأعظم صانع الخليقة.. منحه عينين جديدتين وجبل له من الطين ما نقص لجبلته.. خلقهما ليبرهن أنه ذاك الخالق الأول والأوحد الذي شكّلت يداه آدم الأول من التراب؛ وهو الذي خلق له الآن مقلتي عين جديدتين؛ كونهما وصنعهما بيديه من الطين؛ وبنسمته جعل فيهما الحياة بعمل يديه.. تفل في الطين لأن التنفس هو الوظيفة البيولوجية التي تُبقي على الإنسان حيًا بعطية الله واستعادة الحياة بنسمة فيه.. أمر الأعمى أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام (مرسل) لأنه هو المرسل رسول العهد؛ وهو النبع والنهر والصخرة الروحية؛ سر خلقتنا الجديدة واستنارتنا.. الذي أتى إلى هذا العالم لدينونة؛ حتى يبصر الذين لا يبصرون (يو ٩ : ٣٩)..
وفي صلوات المعمودية تتردد أصداء هذه المعجزة عندما نطلب بإلحاح لكي ينعم علينا محب البشر والنفوس ليعمل فينا للشفاء ويمنحنا قوة العافية لنحيا للبر ونتطهر للتجديد، ويتحول قبحنا وعيبنا إلى بهاء؛ إذ لا شيء يصعب على سخاء عطاياه وقدرته الإلهية.. نطلب إليه كي (يفتخ عيوننا ومسامع قلوبنا لتستنير عيون قلوبنا وعقولنا حتى لا ننام موت الموت؛ وحتى ننال روح الاستعلان وننفتح على روح الرؤيا ونور إعلان الأمم..
لذلك نطلب نعمة الاستنارة وترك الظلمة والاستضاءة بنور القيامة والمعرفة الحقيقية، فنضيء بشكله المحيي.. وننتقل ونتبدل ونتقدس بضياء أعمال الملكوت، الذي يمكّن عيوننا من قبول البهاء وينزع عنها كل غشاوة وظلمة تعطل الرؤية الإلهية).
وتضع الكنيسة قراءات من سفر طوبيا لما يحويه من إشارات كثيرة للمعمودية واستنارة عيني طوبيت؛ ومرافقة ملاك المعمودية لنا في رحلة غربتنا في هذا العالم…
إننا يا سيدنا ومعنا عميان كثيرون نقف عند بركة سلوام لكي نجدك فنبصر عمل استعلانك الإلهي ورجاء دعوتنا التي بها قد ربحنا كل شيء.. كنا عميانًا مشوهين فارغين من النعمة وأتيت إلينا مجتازًا وخلقت لنا أعينًا جديدة؛ وحولت الماء الساذج الطبيعي المحسوس إلى قوة إلهية غير منطوق بها؛ حولتها إلى طبيعة حية والدة تهب الحياة الجديدة؛ وأعمالك غير المدركة صيرتها مدركة لنا وفينا. ودعوتنا لكي نبصر ونذوق الموهبة السماوية وشركة الروح القدس ومعاينة مجدك.
إنها دعوتك لكل البعيدين وذوي العاهات والمشوهين والناقصين كي يتكملوا ويصحّوا وينالوا جمالاً، فمبارك أنت يا الله الصانع العجائب وحدك؛ الذي تفعل كل شيء في كل أحد.. وتدعونا اليوم لنعيش ونتذكر مواطنتنا السماوية وتمتعنا بأطياب مائدتك الملوكية، فإن كنا نعرف تاريخ ميلادنا الجسدي ونحتفل به؛ فكم بالأولىَ علينا أن نذكر يوم معموديتنا وميلادنا الحقيقي من رحم المعمودية؛ وأن نذكر في أحد التناصير أيضًا خلقتنا الجديدة ومعموديتنا التي بها صرنا محسوبين مع شعب الله وخائفيه؛ هياكل للروح القدس ضمن الأسماء المكتوبة في سفر الوعد الثمين.