بالعودة إلى موضوع الإنسان المخلوق على “صورة الله”. لقد ولدت هذه الفكرة الواردة في مطلع سفر التكوين غنى كبيرًا على مدى تاريخ الفكر المسيحي. فعلى سبيل المثال، يعلّق القديس غريغوريوس النيصصي على الآية 1، 8 من كتاب نشيد الأناشيد – “نْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي” – فيدعو الإنسان لكي يفكر بـ “كرامته الملوكية” التي تسمو على كل خليقة. فما من خليقة مرئية تستطيع أن توازي كرامة الإنسان المخلوق على صورة الله.
لذا يقول أب الكنيسة الكبادوكي العظيم للنفس المؤمنة: “أنت وحدك خُلقتِ على صورة الطبيعة التي تفوق العقل، خُلقتِ صورةً للجمال الذي لا يفسد، ووسمًا للحقيقة الإلهية، وعاءً للحياة الطوباوية، صورة للنور الحق، الذي بالنظر إليه تصبحين مماثلة له، إذ أنك تقتدين بذلك الذي يشع من خلالك بواسطة الشعاع المنعكس في طهارتك”[1].
رغم أن الإنسان جزء من العالم المخلوق، إلا أنه لا يمكن حط قيمة الإنسان إلى حد أي مخلوق آخر. فهناك تسامٍ جذري في هذه الخليقة التي يجرؤ الوحي الكتابي أن يصفها بهذه الكلمات: “على صورة الله خلقه”.
يذكر هنري دو لوباك الإنسان بما قاله فيه الفلاسفة، أي أنه كون مصغّر (microcosmos)، أي موسوعة تتضمن مختلف عناصر العالم و “مختصرًا للآلة الكونية”. ويصرح بأن الإنسان، نعم، هو ذلك، ولكنه في الوقت عينه أكثر من ذلك بكثير. لا يمُكن مثلاً اختزال جوهر الإنسان بلائحة المكونات الكيميائية الكونية! الإنسان أسمى من أية خليقة. أسمى من النجوم وهو ليس خاضعًا للأبراج وللقدر.
هذا ويبين دو لوباك عظمة الإنسان مستشهدًا بنص قديم لإسحق ديلا ستيلا الذي يحث الإنسان بهذا الشكل: “ادخل إلى قلبك. ففي الخارج أنت مثل حيوان، على صورة العالم؛ لهذا يُعتبر الإنسان كونًا مصغرًا. أما في الداخل، أيها الإنسان، فأنت صورة الله، لهذا تستطيع أن تتأله”.
إننا نلمس في كل هذه الاكتشافات الكتابية واللاهوتية الدعوة إلى العظمة الكامنة في إنسانيتنا. سنتابع في الحلقة المقبلة التأمل بهذه العناصر سعيًا وراء مشروع الله بشأن الإنسان… منذ الخلق.
[1] Cf. Gregorio di Nissa, Omelie sul Cantico dei cantici 2.