الاِنْفِتَاحُ الثَّقَافِيُّ فِي الكَنِيسَةِ الأُوُلىَ

لم تنغلق الكنيسة يومًا على الثقافة والحضارة

Share this Entry

منذ بداية الكنيسة الأولى تعاملت مع الأيديولوجيات والثقافات والحضارات السائدة والمعاصرة لها؛ بالرغم من مدى هُوّة التعارض بينها وبين الكمال المسيحي الذﻱ تنتهجه كرازتها وخدمتها؛ لكن الكنيسة لم تَسْعَ لتُقيم ثقافة مقابلة أو بديلة إحلالية؛ فهذا ليس عمل وظيفتها.

لذلك قادها الروح القدس للتغيير والتجديد بالانفتاح الواعي؛حيث استطاع العلامة بنتينوس وكليمنضس السكندرﻱ وأوريجين وديديموس الضرير العالم الشهير؛ اقتحام صنمية ووثنية عصورهم؛ التي كانت محاطة بالتكريم والتخويف؛ حتى يتخوف كل من يتجرأ بالولوج إليها أو التعرض لها بالفحص والتشكيك أو الانتقاد. 

لذلك اتَّبعت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في انفتاحها وتنوعها؛ منهج الأخذ بالحسن ورفض الباطل، وما لا نأخذه كله؛ لا نرفضه كله، لكن “بتميُّز وتعقُّل متَّزن”.. لذا قبلت القيم المذخرة في الآداب الكلاسيكية؛ دون تهوين أو تهويل؛ ودون إفراط أو تفريط؛ ودون تأليه؛ لكن في نفس الوقت من دون الاستهانة أو الحط من قدر هذه الحضارات الثقافية؛ فيما ينفع ويبني ويتوافق… ومن هنا أتت أعمال آباء الكنيسة واعية وناضجة؛ تشهد على مدى الاتزان والتحفظ تجاه محيطها؛ بالمقارنة مع المعاصرين لها؛ غير حاملة اتجاهًا مُعاديًا ولا موقفًا عنيفًا من الفلسفات السائدة؛ بل استخلاص ما بها من حق؛ يمكن أن ينفُذوا منه إلى الكمال المسيحي.

وهذه النظرة المتوازنة جعلتها ثابتة الوثبات، وجعلت التعارض بين الإيمان والعلوم الراقية يتناقص، حتى كان من السهل على النبلاء والعلماء والحكام والأغنياء والأدباء؛ أن يقبلوا مسيح الكنيسة؛ ويستمروا في تنشئة أولادهم مسيحيًا. إذ لم تجد الكنيسة غضاضة في استعمال القواعد التقنية الكلاسيكية في الأسلوب والبلاغة والشعر والخطابة لصياغة الأدب والتربية المسيحية والحياة العملية؛ حتى صارت الثقافة المسيحية والشروحات والتفاسير والخطابات والميامر بديلاً عن هوميروس وفرجيل، مستخدمة الوسائل الفنية التي ابتدعها علماء اللغة اليونانية والاجروميات؛ لشرح وتفسير الكتاب المقدس.

وكذلك العظات كصيغة أدبية لمخاطبة الجماهير واستثارة حماسهم… واستخدمت أيضًا أساليب البلاغة والفلسفة والفصاحة والبيان والحوار الجدلي المنطقي في الإقناع على نسق الخطباء القدامىَ؛ هادفين مصالحة اللاهوت المسيحي مع الفلسفة على أساس كنسي كياني؛ بصورة منهجية للتوفيق بين تقليد الإيمان واستنباطات وتجليات الفكر البشرﻱ الحر.

استعار “علم اللاهوت” θεολογία الأساليب الفلسفية والمنطقية والبرهانية… وكذلك تم توظيف سائر فنون وعلوم الثقافة المعاصرة؛ حتى استطاعت الكنيسة أن يكون لها ريادة فكرية وثقافة مزدهرة في العصور الأولى؛ وحينذٍ أفرزت مجموعة من أرقى وأذكى الذهنيات والعقليات الكنسية كمعجزة إنسانية؛ جعلت القرون المسيحية الأربعة الأولى تسمَى بإسم “العصر الذهبي لآباء الكنيسة؛ وهو العصر الذﻱ عاش فيه أعاظم الكُتّاب الكنسيين شرقًا وغربًا : من أمثال إيريناؤس الليوني وأغناطيوس الأنطاكي وأثناسيوس السكندرﻱ وباسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزﻱ وسميّه النيصي وأوريجانوس وديديموس الضرير وكيرلس عمود الدين ويوحنا ذهبي الفم وامبرسيوس الميلاني وهيلارﻱ أسقف بواتيه وأُغسطينوس وكبريانوس القرطاجي وكيرلس الأورشليمي وجيروم وميثوديوس الأوليمبي وإبيفانيوس السلاميسي وإيسيذورس الفرمي وأنطونيوس ومكاريوس الكبير وباخوميوس أب الشركة وشنودة رئيس المتوحدين… فكانوا جميعهم وَمَضاتٍ تاريخيةً وعباقرة في الفكر والأدب العالمي، وكانوا أساسات عظيمة لنضوج الإلهام المسيحي بعلومه وتاريخه وقوانينه وعقائده ولاهوتياته، مؤسسين نسيج العبقرية الثقافية للمسيحية الكونية.

وإن كان لكل من هؤلاء الآباء والكُتّاب طابعه المتميز؛ إلا أنهم جميعًا مقتدرون في العلم والمعرفة والتقوى، وقد حققوا أشواطًا في الدراسات الزمنية والعلوم والبلاغة والشِعر والمنطق والفلك والتاريخ والخطابة والنقد الأدبي والمحاماة… فصاروا من أساطين الثقافة والشهرة، موظِّفين إمكاناتهم التي أتقنوها من قوة لغة وفنون وعلوم لخدمة كرازة الانجيل؛ حتى أصبحوا أعاظم الكُتّاب والأدباء والمدافعين والشارحين؛ مقارنة بمعاصريهم. وقد أعطتهم ثقافاتهم المتسعة القدرة على اختبار مشاكل الحياة العامة والاحتكاك اليومي بحسٍّ إنساني قوﻱ وعميق، فصاغوا كتاباتهم وعظاتهم لتقديم حلول عملية إنجيلية للواقع المعاش، ليس على مستوى “تنظيري نظرﻱ تجريدﻱ”؛ ولكن “حياتي واختبارﻱ“.

وهنا لم تصر ثقافتنا المسيحية “أيديولوجيا تصوُّرية”، لكنها روح وحياة؛ تتحدث عن : الغنَى والمادية، الفلسفة، الصبر، المُسَليَّات، الموت، الجسد، العفة، الجحود، الدراسة، التجارة، السكر، الحظ، الأخلاقيات، الفهم، موت الأطفال، الخَلْق، القيامة، الخلود، التربية، الشعر… وتشكيلة موسوعية متعددة لا يحُدّها زمن.

فكليمنضس الروماني وسَمِيُّه السكندرﻱ؛ ويوستين الشهيد وأثيناغوراس المدافع؛ والعلامة ترتليان ولاكتانتيوس ويوسابيوس؛ شقوا طريق الوثنية العاصف، ودخل الآباء من بعدهم ليضعوا أسسًا متعددة القوى للروحانية والعبقرية؛ لتتحقق رسالة الكنيسة في كل عصر، بإعلان الخلاص للناس… حيث
انطلقت ثقافة كنيسة الآباء من واقع رسالتها بإعتبارها صورة المسيح المنظورة وصوته المسموع للبشرية.

ونستطيع القول أن أول جامعة مسيحية (الديسقاليون) وأول مدرسة تعليمية Catechetical School جاءت لمواجهة تيارات إلحادية ووثنية وغنوسية وأفلاطونية وهلينية، من أجل تقديم معرفة الإنجيل؛ على مبدأ أنه “لا إيمان بغير معرفة؛ ولا معرفة بغير إيمان… فإن لم نؤمن لن نفهم”؛ كما قال كليمنضس السكندرﻱ.

لذا جاءت ثقافتها بإنفتاح لإعلان حق الله الخلاصي المعلن في الكتب المقدسة؛ بمعرفة روحية غير منعزلة عن الإيمان والكشف الإلهي؛ خلال مدرسة الإسكندرية التعليمية ذات الشهرة العالمية المتألقة؛ والتي هي أقدم مركز للدراسات المسيحية والعلوم القدسية؛ بل وأشهر معهد عقلي على أساس بحثي وموسوعي شامل؛ تميز بالبحث والتنقيب والمناقشة المستمرة وحكمة الاجتهاد والتلمذة؛ التي تربط بين الفلسفة والوحي بإتساع الفكر المسيحي المتعدد والمتنوع… والذﻱ أبرز ثقافة الكنيسة أمام العالم كإبنة الملك التي ذكرها المرتل بأنها ملتحفة بثياب مزركشة؛ تلمس أوتارًا مسكونية عبر العالم كله.

وبالجملة كان آباء الكنيسة عظماء ومعاصرين في ذهنياتهم وشروحات تفسيراتهم، وفي استيعابهم للإنجيل العملي المختبر؛ بقدرة خطابية وعقلية بلاغية وأعمال نساخة واختزال وتسجيل وتدوين لكلمات المنفعة الذهبية كسلاسل اللؤلؤ الثمين؛ تفسيرًا روحيًا وشرحًا جدليًا منطقيًا وتوجيهات سخية ومحاورات.. فقدموا لكنيسة الله علومهم الزمنية كنوع من التقدمة، مكرِّسين غناهم الفكري لتزيين الكنيسة ولتعليم ثقافة مسيحية تتجمع حول “الإيمان والحياة”؛ ولتلقين المجتمع الإنساني ثقافة عصرية صالحة للتطبيق على كل المستويات ولكل الأزمنة؛ وهي التي آلتْ إلينا ككنز لا يُفرَّط فيه، لنختبر واقعية وغنَى الحياة المسيحية.

 

Share this Entry

القمص أثناسيوس جورج

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير