ما هي دعوتي؟ – الوجود البشري كدعوة إلى الخروج (2)

ما هي دعوتي (10)

Share this Entry

يظهر الإيمان المسيحي بحسب تعبير بولس السادس كـ “خبير بالإنسانية”، فهو إيمان إنساني بالعمق، وفي الوقت عينه لا يتوقف فقط على البعد الإنساني الأرضي بحت، بل ينفتح بالضرورة على البعد الإلهي الكامن في الوجود الإنساني! فقط علمنا التاريخ الحديث – تاريخ القرن العشرين بشكل خاص – كيف أن إغلاق البشرية في أطر البشرية وحسب يجعل من الإنسان عدو إنسانيته. فحدّ الإنسان في أطر بشريته وحدها هو “خطيئة” ضد الإنسان، لأن الإنسان خُلق لعظمة تسمو بشريته عينها! بهذا المعنى يقول هنري دو لوباك بأن “الأنسية الحصرية هي أنسية لاإنسانية”[1].

في تعليقه على الفصل الثالث من سفر التكوين، يتحدث مارتن بوبر عن هذه المفارقة: “لا يمكن للإنسان أن يهرب من أمام الله، فبينما يحاول أن يتخفى عن الله، يتخفى عن ذاته”[2]. يعلمنا دو لوباك بأنه إذا لم نَتُق إلى ما هو أسمى منا، نقع في ما هو أقلّ منّا، وإذا فقط الإنسان معنى الله، فقد معنى ذاته.

الإنسان هو مثل سر القمر (mysterium lunae)، فنحن نيرون بقدر ما نُفسح للرب أن ينيرنا، وبهذا المعنى تشرح لنا القديسة كاترينا: “في طبيعتك، يا إلهي الأزلي، أفهم طبيعتي”[3]. المعرفة التي تتحدث عنا المتصوفة ليست معرفة مجردة، بل هي معرفة تبين معنى وغاية وجودنا. فسر الإنسان يبقى غامضًا إلى أن يكشف له الله جوهره ومقصده.

هذا هو الدرس الذي يقدمه لنا الفيلسوف موريس بلونديل عندما يحلل الرغبة البشرية ملاحظًا أن هناك  مسافة لا متناهية بين ما نحن عليه وبين ما نرغب به، مسافة لا يستطيع شيء أن يملأها، والله وحده هو “الضيف السري” الذي يملأ الحياة بالمعنى. هذا ويستعمل الفيلسوف كلمة ” hôte ” وهي كلمة ذات معنيين إذ تعني: ضيف وقربان.

لقاؤنا بالله لا يتم من خلال انطواء أناني على ذاتيتنا، بل في التاريخ، في التجسد، في الاعتراف بأننا لسنا غاية وجودنا. يدعونا الله، وربما أحيانًا بشكل عنيف، لأنه يتهم بنا، لأنه يريد نمونا، يريد أن نحقق وجودنا. وهنا، بالعودة إلى قصة إبراهيم، يشرح لنا أندريه وينان بأن البطريرك، إذ يترك أرض عشريته، يترك “منطقًا بابيلونيًا” لكي ينفتح على الله ولا يخضع لمنطق بابل المتمثل بتحقيق الإنسان لذاته بمعزل عن الله[4].

يجيب إبراهيم على دعوة الله محققًا بالواقع ما هو كامن في عمق أعماقه: أن يكون أكبر من ذاته، وأن يحقق ذاته في العلاقة المطلقة مع المُطلق. ولذا، فدعوة الله إلى الخروج ليست تلاعبًا إلهيًا بخليقة، بل هو فعل حب. فالدعوة المطلقة إلى الخروج هي بدء تحقيق جوهر الكيان.

لعل كلمات الشاعرة أميلي ديكنسون تعبّر بشكل رائع عن معنى الدعوة، التي هي في العمق دعوة لكي نكون “شركاء في الطبيعة الإلهية” (1 بط 1، 4):

“لا نعرف قامتنا الحقة  

إلا عندما نتلقى الدعوة للنهوض

وإذا بقينا أمناء لمهمتنا

تصل قامتنا إلى السماوات.

فالبطولة التي نحاول تمثيلها

ستكون خبرة يومية

لو لم ننحنِ

من خوف ألا نكون ملوكًا[5].

دعوتنا هي دعوة إلى العظمة، عظمة تنبع من عظمة الله، لا من المجد البشري الباطل. أليس هذا ما يقوله لنا الرب في سفر هوشع: “إنَّ شَعْبي تَشَبَّثَ بِالِآرْتدادِ عنِّي. دَعَوه إِلى العَلاءِ وما مِن أحَدٍ يَنهَض” (هو 11، 7).

 


[1] H. de Lubac, Le drame de l’humanisme athée, Cerf, Paris 2000, 10.

[2] M. Buber, Il cammino dell’uomo, 22.

[3] Caterina da Siena, Orazioni 22.

[4] A. Wénin, Da Adamo ad Abramo o l’errare dell’uomo, 174-175.

[5] «We never know how high we are / Till we are asked to rise; / And then if we are true to plan, / Our statures touch the skies. / The heroism we recite / Would be a normal thing, / Did not ourselves the cubits warp / For fear to be a king» (M.L. Todd, ed., Poems by Emily Dickinson. Third Series, Little, Brown & Co., Boston 1917, 27).

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير