لقد قيل بحق أن ظهور سمة الحوار كانت هي الفضل الذﻱ أتت به المسيحية، ويقارن بمقاربة استعلان الثالوث القدوس؛ أﻱ العلاقة بين الأقانيم داخل الله نفسه.. فإنْ تبددت السمة الإلهية للحوار بين بني البشر؛ حينئذ يكون البشر أشياء وليسوا أشخاصًا؛ وإلهنا إله أشخاص وليس إله أشياء… إله إبراهيم واسحق ويعقوب، “إلهي أنا؛ الذﻱ أحبني أنا شخصيًا؛ وفداني”.
إن أﻱ شخص هو (شخص) حينما يكون في علاقة حوار حر مع الأشخاص الآخرين؛ وفي شركة دائمة مع الله، والتجديد الكامل للطبيعة البشرية يقوم على علاقة الحوار مع الله والاتحاد بأهل بيته الذين هم رعية القديسين. (شركة مع الثالوث القدوس + شركة مع القديسين + شركة مع جماعة المؤمنين).
والتعددية تتوحد عندما تتحول الطبيعة البشرية إلى ذلك الإنسان الواحد الكامل؛ ذلك الإنسان الحر الذﻱ هو على صورة الله ومثاله؛ ذالك الإنسان الرسولي الذﻱ يحب البشر والعالم والخليقة كلها؛ ومن ثم ينفتح ويدخل إلى المنازل الكثيرة؛ وكلما يدخل كلما تنفتح أمامه أبواب وأعماق جديدة؛ ينادﻱ فيها العمقُ عمقًا أكبر؛ حيث تثرى التعددية وتصير أكثر غنىً بل أغنى وأغنى، وتنكشف عجائب جديدة ومدهشة؛ على رجاء المنفعة.
نبني ونخدم ونُقرض ونزرع ونسافر ونتعلم ونتتلمذ ونتسلم ونكتشف بتعددية الحوار؛ دور ورسالة كنيستنا وشهادتها النبوية؛ وامتدادها الملكوتي ككنيسة الملك السمائي ملك القديسين من كل الأجناس والألسنة والألوان واللغات؛ بانفتاح أُفُق واتساع القلب والعقل نحو النهائيات الابدية والتي لا تُحَدّ… بشارة ارتقاء إلى ما هو فوق وسامي وسماوي ومرتفع ومتعقلن، بشارة انفتاح واتساع وحياة أفضل، بشارة لكل الشعوب والأجناس والألسنة، لكل من يريد ويقبل ويسعى ليدرك من غير قمع ولا مقت؛ لأن الله لا يُعبد بالقهر؛ ولايقتحم خليقته؛ ما لم يقبلوه ويطلبوه ويتجاوبوا مع تدبير خلاصه الذي أتى ليكمله بإرادته وسلطانه .
على مدى العشرين قرنًا، نلاحظ أن الكنيسة كانت دائمًا تهرع إلى البرية تبحث عن قديسيها ونسّاكها ومتوحديها؛ لتسألهم المشورة؛ وتطلب تدبيرهم للخدمة.. لذلك استكملت الكنيسة بحواريها وحوارهم المتعدد كل تنظيماتها خلال القرون الأولى؛ كلوحة موزاييك متجانسة ومتنوعة متألقة في صورتها الجميلة؛ مرسومة بيد الفنان الإلهي السمائي؛ وكل قطعة في هذة اللوحة قد أخذت موقعها؛ وفقًا لدورها الجمالي والوظيفي والحركي في أيقونة الكنيسة؛ وقد عرفت مكانها داخل هذا الإطار المنسجم والمجسم؛ دون تنافس أو تعارض، فأصغر وحدة في هذة اللوحة هي الخلية التي من مجموعها وتعدديتها تكونت الكنيسة الجامعة الرسولية.
إن مجمل التعليم الذﻱ تلقنته الكنيسة صار طريقًا؛ لذلك سُمي أعضاؤها (أهل الطريق) أو (الطريقيين).. وكانت صورة التعليم حوارًا كنسيًا ومدرسة للتعليم ومنهجا للتربية يمثل وحدانية في تعدد؛ تسمت بالكاتشزم (Catechism) والتي تأسست على السؤال والجواب (س،ج) عبر الحوار والتعدد والمشاركة؛ حيث يتشارك الذﻱ (يتعلم) مع الذﻱ (يعلِّم) لجمع الخيرات المتمثلة في المنهج والطريق والخبرات والتسليم والتلمذة كخزانة ميراث، مقصدها الخدمة والبشارة وروح الكرازة وطرق العبادة؛ عبر اليقين العقلي وصحة التصرف (يتيقن كل واحد في عقله) (رو ١٤ : ٥)؛ وذلك اليقين القائم على الرضا الفكرﻱ وثبوت العقل الذﻱ يحقق ثبوت الإيمان بالروح معًا. (هلموا نتحاجج) (إش ١ : ١٨).
دائما نحتاج إلى الحوار والمصارحة لانهما قناة المصارحة التفاهم لا الفرض والقمع والحجر والظن والتشكيك، نحتاج دائمًا إلى التعدد والتنوع لتسخير كل المهارات في خدمة الكنيسة؛ بمنهج الجموعية النابعة والمؤسسة على اختبارنا الروحي الخاص يوم معموديتنا؛ لنعطي جوابًا عن ميلادنا الجديد، فليس لائقًا أن نتحوصل أو نتخاذل، بل نتحاور ونخدم لنبرهن على ولادتنا من الآب الصالح بإظهار صلاحه؛ شاهدين بوحدتنا على أننا أولاد الله دون تمييز، متصلين ببعضنا؛ فكل من يتصل بالروح القدس يتقابل مع الآب والابن، وكل من يشترك في مجد الآب يكون مجده ممنوحًا له من الابن بالروح القدس.
عندما ننظر إلى طبيعة كيان الكنيسة؛ نحيا كجماعة مؤمنين ملتفّين حول الرب، يجمعنا سر الوحدة في المسيح المركز؛ مع جميع القديسين في الشركة والنور والحياة؛ داخل كنيسة الجسد الواحد؛ متحدين متصلين؛ مع أننا متمايزين في تعددية الوحدة وشركة المجموع، حيث تعمل النعمة الإلهية في كل عضو؛ وتجعله يتجاوز فرديته لتُدخله في مجال الوحدة الكنسية، وهذا هو الأساس العميق لشخصيتنا ولكياننا الزمني والأبدي، وهو كذلك تحقيق للصورة الإلهية في ملئها؛ عندما يصبح كل واحد فينا (كائن شركة) حاملاً المسيح، بتخلٍّ عن أنانيته وفرديته وذاته وفراغه؛ وعندئذ بالمحبة والاتضاع يقبل إخوته.
فما يكون القيمة الشخصية للعضو (الشخص) هو قدرته على الشركة والعطاء والخدمة والشهادة العملية.. فكل شخص يتجه إلى جابله كزهر عباد الشمس؛ ليستمد وجوده وكينونته من خالقه.. وكل شخص مخفي في خالقه؛ مستتر في المسيح يسوع، مستأثر كل فكر لطاعته، منشغل بسبق وجوده في إرادة الله الخالق من قبل.
ومن هنا الوحدة هي المستوى الأعلى للوجود؛ بينما هي نتاج الحركة؛ وعلامة عدم الثبات والتحلل.. فكل الأشياء مرتبطة معا: إنها كلها من الله وإليه تعود، وبكلمات العظيم أنطونيوس (ال
له واحد هو؛ والجوهر العقلي أيضًا كائن في الوحدانية؛ لأن كل المخلوقات أبدعها الخالق من العدم) وكل المخلوقات المتعددة هي من إبداع مبدأ واحد؛ هو الثالوث القدوس؛ الآب والابن والروح القدس.
وأهمية مفهوم الوحدة الأصيلة في جوهر الكل؛ وهي روحية – قائمة على حقيقة أننا مخلوقون ومجبولون أصلا على صورة العقل الإلهي؛ الذﻱ هو كلمة اللوغوس رأس كل الخليقة، وجميعنا من جوهر واحد، وأعضاء بعضنا البعض، والذﻱ يحب قريبه يحب الله؛ والذﻱ يحب الله يحب نفسه؛ وهذه هي الوحدة والتعددية.
إننا مخلوقون في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها (أف ٢ : ١٠).. لذلك عندما نسلمه حياتنا إنما نعطيه الذﻱ له، نسلم حياتنا لصاحب الحياة لكي تُحفظ وتدوم فيه ليؤمِّنها، فتصبح تعدديتنا فيه… وحدانية تجمعنا معه؛ ومن ثم مع الجميع.. وهكذا تصبح كل أنشطة حياتنا وتصرفاتنا صادرة منه وبه وله، لأنه هو العامل فينا كي نريد ونعمل من أجل المسرة.