الحياة المسيحيّة هي مساكنة الله الشخصيّة للنفس التي تضيفه . وتتحقّق هذه المساكنة بواسطة النعمة التي تجعل الإنسان من أبناء الله . فكلّ من هو حاصل على نعمة الله (النعمة المبرّرة والمقـــــدِّسة ) يجدُ الله ساكنا في قرارة نفسه ، ضيفا داخليّا ، وصديقا أليفا يولي مضيفَه حياة ً صميميّة كلّها سعادة .
يقول كتاب المزامير : ” رأسُ الحكمة مخافة الله ” (مز 110 : 10) . ليست المخافة مخافة الطفل أمام منظر مرعب ، بل هي مخافة الرهبة والإحترام والوقار أمام سيّد حياتي . إحترامه وخشيته بحبّ وحريّة . هذه العبارة ” مخافة الله ” برد وجليد على قلوبنا . نحبّ أن نتكلّم عن محبّة الله ، لا عن مخافته ، ونحنُ على صواب . بيد أنّ هنالك مخافة ً ليس بوسعنا أن نستنكرها .
المخافة هي موهبةٌ من الروح القدس . كما ذكرنا أعلاه ، المخافة على أنواع . فهناك مخافة لا تعني إلاّ الخوف ، والخوف بين الأميال الإنسانيّة ميل غير شريف وبشريّ محض . وهناك خوف الخدّام والعبيد . فإذا كان هذا الخوف هو الدافعَ الوحيد لأفعالنا أفسدها . تلك حالة مَن لا يخدم الله إلا خوفا من دينونته ومن جهنّم . فيقول : لو لم تكن ثمّة جهنّم ، لسلكتُ في حياتي سلوكـــًا آخر . هذا الخوف الخاصّ بالعبيد ردئ ، وقادر أن يولّد فينا خطايا كثيرة . وهناك أنواع أخرى من الخوف ، وهو خوف الأبناء من آباء قاسين . وخوف العامل أمام مديره في الشركة إن هو فعلَ أمر خاطئ .
ومن مفاعيل موهبة المخافة .. إنّ النفس الخاضعة لفعل الروح القدس بواسطة موهبة مخافة الله ، تستسلم له تعالى إستسلامًا مطلقا ، وتضع ذاتها كاملة ً بين يديه وفي تصرّفه ، فتقول : ” خذني ، استولي عليّ ، فإنّي لكَ . واضبطني لكي لا أستطيع أن أنفصل عنك . هذا التسليم ، وبذل كياننا ونشاطنا بين يديع تعالى ليستولي علينا هو مفعول موهبة المخافة المباشر .
من ميّزات سياسة الروح القدس الخاصّة في قيادتنا أنه يستخدم مواهبه ليجعل منّا أدوات ٍ بين يديه . ويُسلِسُ قيادنا هو نفسه بواسطة إلهاماته . فموهبة مخافة الله هي الموهبة الآولى في نظام كمال النفس ، لذلك يقال : ” إنّ رأس الحكمة هو مخافة الله ” . كما أنّ الصانع لا يستطيع أن يعمل شيئا ما لم يكن بيده أداةٌ يستخدمها لتحقيق فكرته ، كذلك الروح القدس يستولي علينا بواسطة مواهبه قبل أن يعمل فينا بواسطة إلهاماته .
يعلّمنا القديس توما الأكوينيّ أنّ موهبة مخافة الله مَعوانٌ لفضيلة القناعة . فإن الذين يخافون الله حقا مخافة بنويّة ، إذ يرون في جسدهم ينبوعا دائم الفوران للخطايا التي يرتكبونها ، يُمسونَ لذلك قنوعين ، قشفين ، متواضعين . متى قبلت النفس موهبة المخافة هذه ، ورهبت الإنفصال عن الله ، وألقت بذاتها بين يديه ، فلا يدعها تفلتُ منه ، ويتصرّف بها كما يشاء ؛ متى أخذت تهرب من الخطيئة ومن جميع أسبابها ، فقد دخلت في حالة النفوس الخاشية .
لا بدّ لنا أن نشتري الأبديّة بإيماننا . بيد أنّ هنالك ساعات ٍ نستطيع فيها أن نخرق الحجُب ونشعر بعذوبته وندخل معه في ألفة صميميّة . فلنزدد إذن إتحادًا بالله فنصيرَ واحدًا مع الروح القدس .