هي نعمة تمكّن المسيحيّ من النظر الى عمق أعماق حكمة الله ، ومشروعه الخلاصي . هذه الموهبة تمكّننا من فهم المعنى الحقيقي للتاريخ . ترتبط موهبة الفهم ارتباطا وثيقا بالإيمان .” (البابا فرنسيس) .
لا بدّ لنا من موهبة جديدة ، تساعدنا على اختراق قشور الوحي والذهاب حتى لبابه . إذ كيف السبيل إلى التعبير عمّا لا يعبّر عنه . فالله يعجز البيان ، والتجسّد والفداء يفوقان تفكيرنا ، والثالوث أكثر فأكثر . وسرّ المسيح ، لا نستطيعُ أن نفكّر فيه بمفردنا وبعقلنا المجرّد من غير أن يرتعشَ قلبنا وكياننا ، لأنّ سرّ الكلمة المتجسّد يسحقنا ويقلبُ حياتنا رأسا على عقِب .
موهبة الفهم ، هي إدراك الأمور الإلهيّة ، لا من خلال الخلائق ، بل في الوحي وتعليم الكنيسة اللذين هما إشعاعٌ من الله . فإنّ الروح القدس ، الذي لا يخفى عليه شيء ويفحص أعماق الله ، يعطي الذين ليسوا معه سوى روح واحد بواسطة الحبّ ، اشتراكــــــا في إدراكه للشؤون الإلهيّة ، وفي قوّة نفاذه ؛ فلا يوحي إليهم بوحي ٍ جديد ، وإنما يوضح لهم ما أوحى به سابقا بواسطة نور جديد .
كم من مرّة جُزنا بعبارة من الإنجيل من غير أن ندرك كلّ ما تعنيه ، مثلا هذه العبارة : هكذا أحبّ الله العالم حتى إنه بذل له ابنه الوحيد ” . كنا مع ذلك نؤمنُ بها إيمانا ثابتـــًا من غير أن ندركَ كلّ ما فيها من لُباب . وفي أحد الأيّام جعلناها موضوعا لتأمّلاتنا ، فظهرت لنا فجأة في ضوء ٍجديد . إنّ الله يحيا في الحبّ ، وهو يحبّ ابنه حبّا بليغـا ، وقد بذله حتى الموت موت الصليبْ . وبذله لهذا العالم ، ولأيّ سبب ؟ لانه كان يحبّه . هذا هو سرّ الحبّ الحيّ والمحيي .
موهبة الفهم ، هي الإيمان يُنيره الروح القدس ، وتجوز إليه قوّة سريّة من هذا الفهم الإلهيّ . تظهر موهبة الفهم هذه ، لا بنموّ بسيط للمعرفة العاديّة ، بل بإدراك قلبيّ يشعرُ أكثر ممّا يرى ، ويأتي من قلبنا الذي مسّه الروح القدس .
ونرى موهبة الفهم واضحة في شخص يسوع المسيح ربّنا ، عند تعليمه لتلاميذه . نراه في الإنجيل في كفاح دائم ضدّ عدم فهم تلاميذه وقلّه فهمهم . مع ذلك ، كانوا يؤمنون بمعلّمهم . وقد تركوا ، من أجل معلّمهم ، كلّ شيء ليتبعوه . فكانوا يشعرون نحوه بعواطف تفان ٍ وإخلاص ؛ لكنّهم كانوا بطيئي التقدّم في معرفة الأسرار الإلهيّة . كان قد كلّم تلاميذه عن ملكوت الله في أحد الأمثال ، وإذا بهم يقولان له : فسّر لنا يا رب ! فأجابهم : أحتى الآن لا تفهمونَ ولا تعقِلون ؟ ” تعقِلون ” . العقلانيّة والفهم لم يصلوا إليها التلاميذ عندما كانوا معه . وهذا أيضا يحصل معنا ، اليوم ، في علاقتنا معه . فنحن نقرأ الإنجيل وكلام الربّ ونذهب للكنيسة ، لكنّ الكثيرين لا يعقلون بما يؤمنون به ، بحسب منطق وعقلانيّة الله ؛ إنما نحنُ نريد أن نؤمن بحسب ما نراه نحن ونعقله ، فلا ندع منطق وعقلانية الربّ تذوب فينا لتُرينا ما لم تره عينٌ وما لم تسمع به إذن ما أعدّه الله للذين يحبّونه . يقول يسوع لفيلبّس : من رآني فقد رأى الآب !.
معناه : إن أردتَ الفهم والمنطق والعقلانيّة ، أنظر إليّ واتبعني ، كي تقدر أن ترى الآب الذي سيُريكَ سرّ الأمور الإلهيّة . سيُريك ما لم تره عينٌ ، وما لم تسمع به اذن . سيُريك ما تحت القشور والظواهر .
عندما يُرسل الروح القدس أنواره التي تنشىء اليقين والتذّوق الإلهيّ ، تصير النفس في سلام وطمأنينة ورسوخ ، إنها في حالة الراحة والإستقرار . الإيمان لم ينتقلُ بعدُ إلى المشاهدة السماويّة الجالبة السعادة ، لكن الله يبعثُ شعاعــــــا من نوره ، ولا شيء أقدر من موهبة الفهم على تسكين العقل وطمأنته .