"هاءَنَذا معكم" !

عظة المطران بطرس مراياتي، رئيس أساقفة حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك في عيد الفصح المجيد، 31 آذار 2013 – كنيسة الصليب المقدَّس بحلب

Share this Entry

بعد قيامة يسوع ذهب التلاميذ الأحد عشر إلى الجبل في الجليل، كما أمرهم. وهناك دنا منهم وكلّمهم قال: “إنّي أُوليتُ كلّ سُلطان في السماء والأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القُدُس، وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به، وهاءَنَذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالَم” (متّى 28/16-20).

بهذه الكلمات يختتم متّى الرسول إنجيله. في الجليل تنتهي رسالة المسيح، كما بدأت قبل ثلاث سنوات. ومن الجليل تبدأ رسالة الرُسُل، كما أرادها يسوع القائم من بين الأموات.

يأتي هذا الترائي ضمن سلسلة الترائيات التي ظهر فيها يسوع لتلاميذه في أُورشليم وعلى شاطئ بحيرة طبريَّة وفي عِمّاوس… وهذا دليل واضح وبرهان ساطع على أنّ المسيح حيّ، وقد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت، فما كان ليبقى رهينها. فإنّ داود النبيّ “رأى من قبلُ قيامة المسيح وتكلّم عليها فقال: لم يُترَك في مثوى الأموات، ولا نال من جسده الفساد” (أعمال 2/31).

ألم يؤكّد هذه الحقيقة الملاكان عند فجر يوم الأحد، لمّا جاءت حاملات الطيب إلى القبر فوجدنَ الحجر قد دُحرج والمكان فارغ: “لماذا تبحثنَ عن الحيّ بين الأموات؟ إنّه ليس ههنا، بل قام” (لوقا 24/5-6)؟

إعلان البُشرى

هذه هي الرسالة التي سلّمها يسوع الحيّ إلى تلاميذه: أن “يعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين” (مرقس 16/15).

وهذا ما قاموا به فعلاً بعد أن امتلؤوا من الروح القُدُس: “إنّ يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم قد جعله الله ربّاً ومسيحاً” (أعمال 2/36). “فلا خلاص بأحدٍ غيره، لأنّه ما من اسم آخَر تحت السماء أُطلق على أحد الناس ننال به الخلاص” (أعمال 4/12).

وراح الرُسُل يعلنون كلمة الله بجرأة. وانضمّ إليهم متّيّا وبرنابا وإسطفانُس وبولس وسيلا ومرقس ولوقا وغيرهم كثيرون. “وكان الربّ كلّ يوم يضمّ إلى الجماعة أولئك الذين ينالون الخلاص” (أعمال 2/47).

وانتقلت البُشرى إلى دمشق وأنطاكية وآسيا الصغرى حتّى روما. وآمن عدد كبير من اليهود والوثنيّين. وأُطلق على أتباع المسيح الجُدُد اسم “مسيحيّين”. كما وصلت البشارة إلى الهند شرقاً مروراً ببلاد الرافدين وأرمينيا. وكذلك وصلت إلى الجنوب في بلاد الحبشة مروراً بمصر والجزيرة العربيَّة واليمن… وأُعلنت باسم المسيح التوبة وغفران الخطايا لجميع الأُمم في أُورُبّا وإفريقيا وآسيا وأوقيانيا. وعند اكتشاف الأمريكتين وصلت البشارة إلى أقاصي الأرض، كما أراد المسيح القائم من بين الأموات.

وكلام البشارة الذي بشّروا به هو كلام الإيمان، بحسب قول بولس الرسول: “فإذا شهدتَ بفمك أنّ يسوع ربّ، وآمنت بقلبك أنّ الله أقامه من بين الأموات، نلتَ الخلاص” (رومة 10/9).

في هذا العام المكرَّس “للإيمان” كلّنا مدعوّون لتجديد الإعلان بالبُشرى الأُولى، أيّ بإنجيل ربّنا يسوع المسيح الحيّ، القائم من بين الأموات بعد أن اعترى مُعلنيها، عبر العصور، الفتور والتقاعس واللامبالاة.

فعيد القيامة مناسبة لتنبعث فينا الحَميَّة فنغدو “منادين” بإنجيل التوبة لمغفرة الخطايا، “في وقته وفي غير وقته”. “والويل لنا إن لم نبشِّر” (راجع 1قورنتُس 9/16)، كما يقول بولس الرسول.

ولا يعني الإعلان بالبشارة أن نكون خطباء مفوَّهين أو مرسَلين متمرِّسين، بل يكفينا أن نكون شهوداً للإنجيل، أينما وُجدنا، بمَثَلنا الصالح وسيرتنا الحسنة ومحبّتنا اللامحدودة، و”رائحتنا الذكيَّة” التي تفوح من عبق الميرون الذي تكرَّسْنا به يوم العماد، بفعل الروح القُدُس.

نحن لا نستطيع السكوت عن ذِكر ما رأيناه وما سمعناه ( راجع أعمال 4/20) وما آمنّا به “من كلمة الحياة”. وإنّ كلّ مَن يؤمن ينال المعموديَّة باسم الآب والابن والروح القُدُس، كما أوصى يسوع بعد قيامته. فإنّ الأسرار مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً عضويّاً، وبخاصّة أسرار القيامة والإيمان والمعموديَّة. كما يشرح بولس الرسول: “ذلك أنّكم دُفنتم معه بالمعموديَّة وبها أيضاً أُقمتم معه، لأنّكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات” (قولسّي 2/12).

ولذلك، جاءت المعموديَّة ثمرةً للإيمان بالقيامة، وطريقاً للتوبة، وعهداً لقبول كلام الربّ، ووعداً للحفاظ على وصاياه. فأصبحت أبواب السماء مشرعة لكلّ مَن يقبل الخلاص بصليب المسيح وقيامته فيدخل الملكوت “المُعَدّ منذ إنشاء العالَم”.

طوال الأيّام

ما يشدّ الانتباه في كلمات يسوع القائم من بين الأموات، يوم أرسل تلاميذه لإعلان البُشرى بين جميع الأُمم، أنّه قال: “هاءَنَذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالَم“.

هذه ضمانة ما بعدها ضمانة في أنّه حيّ إلى الأبد، وسيبقى معنا “كلّ يوم” حتّى انقضاء الدهر.

هو معنا بروحه القُدُّوس المُحْيي الذي يرشدنا إلى الحقّ.

هو معنا بعجائبه وأحداث حياته المدوَّنة في إنجيل.

هو معنا بكلامه وتعاليمه المتناقلة عبر الأجيال.

هو معنا بكنيسته المبنيَّة على صخرة الإيمان.

هو معنا بجسده ودمه المرفوعين قرباناً مقدَّساً على المذابح.

هو معنا اليوم، وغداً، وإلى الأبد.

ولكنْ، رُبّ قائل يقول في هذه الأيّام الصعبة المأسويَّة التي نشهدها:

“كيف يكون الربّ معنا، ونحن نتعرّض للقتل والخطف والظلم والنـزوح؟

كيف يسير الربّ معنا، ونحن ضللنا الطريق كخراف لا راعي لها؟

كيف يقيم الربّ معنا، ونحن نعاني الحرمان والتهجير والعنف والتدمير؟

كيف نؤكّد أنّ الربّ معنا، ونحن نرزح تحت وطأة الإحباط واليأس والخوف والشكّ؟

أتُراه تركنا وتخلّى عنا؟!”.

يشبه حالنا اليوم حال مريم ومرتا لمّا أُصيبتا بكارثة موت أخيهما لعازَر، صديق يسوع. فاسودّت الدُنيا في أعينهما، وانهارت ركيزة بيتهما فبقيتا بلا سند أو معيل.

ولمّا سمع يسوع بموت صديقه عاد إلى بيت عنيا، قرية لعازَر، بعد مرور أربعة أيّام. فخرجت مرتا لاستقباله وقالت ليسوع معاتبة باكية شاكية: “يا ربّ، لو كنتَ ههنا لما مات أخي. ولكنّي ما زلت أعلم أنّ كلّ ما تسأل الله، فإنّه يعطيك إيّاه“. ولحقت بها مريم وارتمت على قدمَي يسوع وقالت له، بدَورها، ناحبة مستجدية: “يا ربّ، لو كنتَ ههنا لما مات أخي” (يوحنّا 11/1-45).

وها نحن اليوم نقول مع مرتا ومريم، شاكين باكين: يا ربّ، لو كنتَ معنا لما شُرّدت عائلاتنا ودُمّرت بيوتنا وهُجّر أولادنا وأُغلقت مدارسنا. ولما أظلمت الدُنيا في عيوننا وانطفأ السراج في كنائسنا. يا ربّ، لو كنتَ معنا لما حلّت بنا هذه المصائب وخسرنا كلّ ما جنيناه! ولكنّنا ما زلنا نعلم أنّ كلّ ما تسأل الله، فالله يعطيك إيّاه.

ويجيبنا يسوع: “أنا القيامة والحياة، مَن آمن بي، وإن مات، فسيحيا. وكلّ مَن يحيا ويؤمن بي لن يموت للأبد. أتؤمنون بهذا؟”.

علّنا نقول مع مرتا: “نعم، يا ربّ، إنّي أؤمن بأنّك المسيح ابن الله، الآتي إلى العالَم”.

وكانت المعجزة! فأقام لعازَر من القبر بعد أربعة أيّام، فآمن به كثير من الحاضرين.

وكانت المقدّمة لقيامته الشخصيَّة من القبر بعد ثلاثة أيّام، آية الآيات، فليس للموت عليه من سُلطان.

إنّه إيماننا الراسخ بقيامة يسوع. وبأنّه قيامتنا بعد الموت. وبأنّه قيامتنا في هذه الحياة. فنتغلّب معه على آلام الصليب الجسديَّة، ونتسامى معه فوق جراح العذابات النَفْسيَّة، وننهض معه من قبور أزماتنا الاجتماعيَّة.

دعاء

أنقذنا، يا ربّ، من الموت، يا مَن أنتَ “القيامة والحياة”، كما أقمتَ لعازَر من القبر، فنقوم، بدَورنا، إلى حياة جديدة.

نجّنا، يا ربّ، من ظلام الشرّ، كما أشرق نُور قيامتك عند فجر الأحد، فاستنارت البصائر والضمائر.

ارفع عنّا، يا ربّ، حجر الظلم والحقد الرابض على صدورنا، كما دحرجت الحجر عن باب القبر، لتعود إلينا أنفاس الحرّيَّة والكرامة والعدالة في مصالحة شاملة وتسامح أخويّ.

أبعد عنّا، يا ربّ، كأس المرارة التي نذوقها كلّ يوم. ولكنْ، لا كما نحن نشاء، بل كما أنتَ تشاء!

نَفْسُنا حزينة حتّى الموت، يا ربّ. مَن لنا سواك يُنهضنا من تحت وطأة الصليب ويقيمنا معه من دركات الموت؟

إنّك على كلّ شيء قدير، يا ربّ، وتعرف “أنّ الروح مندفع وأمّا الجسد فضعيف” (متّى 26/41).

زدنا إيماناً، يا ربّ، وقوِّ إرادتنا لكي نسهر ونصلّي فلا نقع في تجربة.

تعالَ وامشِ معنا، يا ربّ، وامكث عندنا، ليتّقد قلبنا، ويزول اكتئابنا، وتنقشع الغشاوة عن عيوننا، فنعرفك عند كَسْر الخبز.

عليك اتّكلنا، يا ربّ. والاعتصام بك خير من الاتّكال على البَشَر. فلا تردّنا خائبين، يا ربّ، ولا تهملنا، يا أرحم الراحمين. آمين.

كنيسة الصليب المقدَّس بحلب

عيد الفصح المجيد، 31 آذار2013 

المطران بطرس مراياتي

<p>رئيس أساقفة حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير