1. من عمر سنتَين وعلى مدى تسعين سنة، ووديع الصافي، وديع القلب، وصافي الصوت، يعزف ويغنِّي لله وللبنان بإيمانٍ وحبٍّ وشغف. على المنابر والمسارح في قصور الفنّ، غنّى بحنجرته الذهبيّة وعزف بعوده؛ وعلى مذابح الكنائس رتَّل وصلَّى بقلبه وإيمانه. واليوم، وقد صمت الصوت، وتقطّعت أوتار العود، فإنّه ينضمّ إلى أجواق الملائكة والقدِّيسين في ليتورجيّا السماء، هو الملقَّب بقدِّيس الطرب، ويُنشد لله، الواحد والثالوث، المزمور الثلاثين: “هللويا! يعزفُ لك قلبي ولا يسكت، أيّها الربُّ إلهي. وللأبد أحمدُك” (مز30: 13).
2. لأنَّ وديع الصافي اقترن اسمه بلبنان وتماهى به، على ما قال فيه أحدُ الفنّانين اللّبنانيِّين، حتى بتنا نشعر عندما نسمعه أنّنا نسمع لبنان نفسَه يغنِّي؛ ولأنّه شهد للبنان الفنّ والثقافة والحضارة والجمال؛ ولأنّه عَلَمٌ فارق من أعلام لبنان؛ ولأنّ وديع الصافي رجلُ إيمان وصلاة وتصوّف؛ ولأنّي كنتُ على موعد لزيارته في هذا اليوم بالذات، كما وعدت نجله الأصغر منذ أقل من أسبوع، أردتُ أن أكون معكم ومع أسرته العزيزة في وداعه الأخير بالأسى والصلاة والكلمة، وفاءً لمحبّته وصداقته، وإكراماً لقيمته الوطنيّة الثمينة، وقد قيل عنه عند بلوغ نبأ وفاته: “ربّما يلزمنا ستّة آلاف سنة لاحقة ليأتي وديع صافي آخر”.
3. وديع الصافي، الدّكتور في الفن والموسيقى والغناء والتَّلحين، هو ابنُ نيحا الشوفية العزيزة التي أنجبته، واليوم تحتضن جثمانه الطاهر في تربتها الطيبة على رجاء القيامة. وهو سليلُ عائلة آل فرنسيس الكريمة، التي وُلد في دفء حبّها، بالتزامن مع إعلان دولة لبنان الكبير واستقلاله، فأرسلته سفيراً للبنان في شرق العالم وغربه أبرز بفنّه ثقافته وحضارته. غنّى فيهما جماله بأرضه وجباله وإنسانه، وأعلنه “قطعة سما”. وهكذا وديع الصافي ابن لبنان، الذي عمره من عمره، يتركه لنا إرثاً يوصينا بحمايته وإعادة بهائه وتألّقه، فيما نستعدّ للإحتفال بمئويّته الأولى في غضون سبع سنوات. فأَعِنَّا، أيّها العزيز وديع، من سمائك، لكي نكون على مستوى هذا الاستحقاق الوطني التاريخي. فطوبى للَّذين يساهمون في تحقيقه ويشاركون!
4. في بيت المرحوم بشاره فرنسيس تربّى وديع على الإيمان والصلاة والقيم الأخلاقيّة والعيش الوضيع. هو الثاني بين شقيقَين وخمس شقيقات، لم يبقَ منهم على قيد الحياة سوى شقيق وشقيقة، هما العزيزان إيليا، العميد المتقاعد، وهناء. فلهم ولعائلاتهم جميعاً تعازينا الحارّة. حافظ وديع على ما تربّى عليه من قيم وأخلاق. وجعلها الأساس الذي بنى عليه حياته الزوجيّة مع شريكة حياته السيدة ملفينا التي أخلص لها الحبّ والوفاء. ومعاً ربّيا بالحزم والحنان الأولاد الأربعة والابنتَين، وفرحا بهم وبالعائلات التي أسّسوها، وبالأحفاد الأحبّاء على قلبَيهما. إنّنا ندرك معكم، يا أحبّاءَه، عمق الفراغ الذي يتركه في البيت بغيابه، والجرح البليغ الذي يحفره في القلوب. لكن العزاء الإلهي وتعازي المُحبّين، وما أكثرهم وأصعب تعدادهم، تحوّل حزنكم إلى فرح، ليقينكم أنّه ينعم بالمشاهدة السعيدة في مجد السماء.
“يعزف لك قلبي، أيّها الربّ إلهي، ولا يسكت” (مز30: 13).
5. لقد عزف قلب وديع الصافي لله وللبنان، غناءً وعزفاً وتلحيناً ورقصاً. كانت انطلاقته الفنِّية سنة 1938، وهو بعمر سبع عشرة سنة، عندما فاز بالمرتبة الأولى لحناً وغناءً وعزفاً، من بين أربعين في مباراة نظّمتها الإذاعة اللّبنانيّة آنذاك. غنّى بصوت شبّهه موسيقار ومطرب كبير “بحديقة نجد فيها كلّ أنواع الزهور”. موهبته الفنية الخلّاقة ابتكرت ما سُمِّي “بالمدرسة الصافية للأغنية الشرقيّة” التي أبرزت الأغنية اللبنانيّة في هويّتها، وغرفت مواضيعها من جمالات لبنان وحضارة شعبه وحياة عائلته والتقاليد.
6. عزف قلبه تحت كلّ سماء، في العواصم العربيّة وبخاصّة في مصر، كما وفي العالم الغربي: في البرازيل وباريس ولندن. فأكرموه بثلاث جنسيّات: مصريّة وبرازيليّة وفرنسيّة، وقدّروا عطاءاته بأوسمة الاستحقاق. لكن افتخاره كان بجنسيّته اللّبنانية، وبالأوسمة الخمسة الرفيعة التي كرّمه بها خمسة رؤساء للجمهوريّة اللّبنانيّة. لقد رأى فيه الجميع “مدرسةً في الغناء والتَّلحين، وعَلَماً من أعلام لبنان والعالم العربي”. ويقرّ كلّ ذلك حضور ممثّلين رسميّين عن فخامة رئيس الجمهوريّة، وعن رئيسَي كلٍّ من مجلس النوّاب ومجلس الوزراء.إنّ وزارة الثقافة ونقابة الفنانِّين المحترفين اللّتَين تنعيانه مع الأهل، تحفظان له كلّ التقدير، وتثمِّنان الإرث الفنّي الذي ستتعهدان تفعيله لخدمة الأجيال.
7. عزف قلبه مع الكثير من العازفين. فغنّى للعديد من الشعراء ولاسيّما لأسعد السبعلي ومارون كرم؛ وللعديد من الملحِّنين، وأشهرهم الأخوان رحباني وزكي ناصيف ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش؛ ولحّن بنفسه الكثير من آلاف الأغاني والقصائد. فأجمع أهل الفنّ على القول فيه: إنّه “المعلّم الكبير”و”العلامة الفارقة في الفن والثقافة والإنسانية”.
8. عزف قلبه في خمسة عشر مهرجاناً غنائيّاً على المستوى اللّبناني – الدولي، وفي ثلاثة أفلام سينمائيّة، وفي العديد من الحفلات الغنائيّة والفنّيّة في لبنان والخارج. ووديع الصافي هو هو رجلٌ متواضعٌ وديع، مُّح
بّ لجميع الناس من دون حدود وتمييز، متجرّد، فقير. فلقّبوه “بقدِّيس الفن وشهيده”.
9. عزف قلبه لله. فبدأ منذ الثمانينات بتأليف الألحان الروحيّة، بنتيجة معاناته من الحرب في لبنان، وممّا خلّفت من ويلات على الوطن وأبنائه وبناته. وزاد اقتناعاً بأنّ العلاقة الصافية مع الله هي التي تتوّج كلّ أعمال الإنسان. لقد عزف قلبه للسيِّدة العذراء والدة الإله، وللقدِّيس شربل والقدِّيسة رفقا والقدِّيس نعمة الله. وأضحى معلّم تقوى وصلاة.
“يعزف لك قلبي، أيّها الربّ إلهي، ولا يسكت” (مز30: 13).
10. هو وديع الصافي، قبل أمس السبت “استراح” من عمل الأرض. وفي يوم أمس الأحد، يوم الربّ، غاب عن ليتورجيّة الأرض في الكنائس، لينضمّ إلى ليتورجيا السماء في الكنيسة الممجَّدة حول عرش الحمل، التي شهدها يوحنا الحبيب في رؤياه.
“لا يسكت” قلبه عن العزف لله الواحد والثالوث، وعن “حمده إلى الأبد”. لقد تذوّق وديع الصافي بصوته الشجي الذهبي الذي جعله “عملاق الغناء”، كما سمّاه زملاؤه في الفنّ، جمالَ الأصوات الملائكيّة في السماء. فبصلاته التقيّة في ليتورجيّة الأرض أيام الأحد، وبمحبّة قلبه وحلاوة لسانه وبمشاعره الإنسانية الصافية، كان يستبق، كمسافر على وجه الدنيا، مجد ليتورجيّا السماء، ويتوق إليها. وكم كنّا نسمعه يصرخ بعفوية وسط الجماعة المصلّية: “هللويا!”.
11. على هتاف “هللويا!” أدخل إلى مجد السماء، أيّها العزيز وديع الصافي، أيّها اللبناني بامتياز. واشفعْ لدى الله من أجل لبنان الذي “أعطي مجده للحكمة الإلهيّة” (أشعيا 35: 2)، لكي يدرك المسؤولون في وطننا وكلّ ابنائه وبناته، أنّ لبنان في الكتاب المقدّس، موقوف على الله، وقد أخذ منه صور جمالاته التي ألهمها للّذين كتبوه. لبنان هذا تركته لنا عبر أغنياتك لؤلؤة ثمينة توجب علينا المحافظة عليها. أمّا نحن فنرافقك بالصلاة ليستقبلك الله بوافر رحمته، والسيدة العذراء بحنان أمومتها، وكان العزاء لعائلتك وجميع محبّيك.
وأنت تُنشد مع الأجواق السماوية أمام عرش الله: “هللويا! التسبيح والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوّة لإلهنا إلى دهر الدهور! آمين(رؤيا 7: 12).