ج- الفصل الثاني: “إذا لم تؤمنوا لن تفهموا” (أشعيا 7/9)
يتحدّث البابا عن الرباط الوثيق بين الإيمان والحقيقة، حقيقة الله الموثوقة وحضوره الأمين في التاريخ.
ويقول البابا: “إنّ الإيمان بلا حقيقة، لا يُخلِّص، ولا يجعل خطواتنا ثابتة. بل يبقى مجرّد قصّة جميلة، انعكاساً لرغباتنا في السعادة، أمراً يفرّحنا بمقدار حاجتنا في أن نخدع أنفسنا، أو ينحصر في مجرّد شعور طيّب، يعزّي ويدفئ، ولكنّه يبقى موضوعاً لتذبذبات أمزجتنا، ولتقلّبات التاريخ، ومن ثمّ يصبح عاجزاً عن دعم مسيرة دائمة في الحياة”. إنّ إيماناً من هذا النوع لا يستحقّ أن نكرّس له حياتنا. ولذا، لا بدّ أن يكون هناك رباط حميم وأساسيّ بين الإيمان والحقيقة. وفي ظلّ “أزمة الحقيقة” التي نعيشها، إنّه لمن الضروريّ أن نذكّر بأهمّيَّة هذا الرباط.
وينوّه البابا بالعلاقة بين السمع والإيمان: “الإيمان من السمع”، كما يقول بولس، وبالعلاقة بين البصر والإيمان: “رأى وآمن” بحسب قول يوحنّا، “رأيتُ الربّ”. إنّ الحقيقة التي يدعونا إليها الإيمان ليست حقيقة نسبيَّة نظريَّة، بل هي حقيقة مرتكزة على لقاء المسيح والتأمّل في حياته وإدراك حضوره.
ويفتح قداسة البابا بالتالي باباً للحِوار بين الإيمان والعقل حول الحقيقة في عالَم اليوم، لافتاً إلى أنّ الحقيقة لا يمكن أن تُختزل بالحقائق المخبريَّة والعِلْميَّة، كما أنّها لا يمكن أن تضحي مجرّد “أصالة فرديَّة”، بل يجب أن تنفتح على بُعد موضوعيّ وتسمح بفتح أبواب تواصل بين البَشَر.
الإيمان يتطلّب أحياناً البحث عن الله. ولنا في المجوس، الذين تبعوا النجم، مثال لمَن يجدّ في البحث عن الله الحيّ.
ويأتي عِلْم اللاهوت لا كسائر العلوم الأكاديميَّة، بل هو “عِلْم الإيمان”، أي لقاء مع الله والبحث في أسراره بنُور الروح القُدُس. فاللاهوت ليس كلاماً عن الله وحسب، بل قبل كلّ شيء، هو قبول كلمة الله الموجَّهة إلينا والسعي لفهم هذه الكلمة على نحو أعمق. هذا ما أراد قوله القدِّيس أوغسطينُس بكلامه المأثور: “أؤمن كي أفهم، أفهم كي أؤمن” (CREDO UT INTELLIGAM, INTELLIGO UT CREDAM).
د- الفصل الثالث: “أنقل لكم ما تلقّيته” (1قورنتُس 15/3)
في هذا الفصل يتوقّف قداسة البابا عند أهمّيَّة نقل البُشرى وإعلان الإنجيل. فمَن تلقّى عطيَّة الإيمان لا يمكن أن يحتفظ بها لنَفْسه. فكما سمع الصوت ونال النُور، كذلك عليه أن ينقل بدَوْره هذه الكلمة وهذا النُور لغيره.
يشعّ نُور المسيح على وجه المؤمن وينتشر شعلةً تستنير وتُنير شعلاً أُخرى، وتمرّ من جيل إلى جيل آخَر. (مثل الشعلة الأولمبيَّة التي تمضي من بلد إلى بلد، وتنتقل من شخص إلى آخَر).
وشدّد البابا على أنّه من المستحيل أن نؤمن وحدنا، لأنّ الإيمان ليس خياراً فرديّاً. الإيمان يُعاش في صلب الشركة الكنسيَّة. وهذه الشركة تعني التسلّم والتسليم، كما يقول بولس الرسول: “فإنّيتسلّمتُمنالربّماسلّمتهإليكم” (1 قورنتُس 11/23). وما تسلّمناه ونسلّمه لمَن يأتون بعدنا هو “قانون الإيمان: نؤمن”، والليتُرجيّا، والأسرار، وبخاصّة المعموديَّة والإفخارستيّا.
ويشير البابا إلى أمرين هامّين في النقل الأمين لذاكرة الكنيسة، وهما: “الصلاة الربّيَّة” و”وصايا الله العشر”.
هكذا تحافظ الكنيسة على كنوز الإيمان التي تسلّمتها وتعمل على توزيعها على المؤمنين، ونقلها إلى العالَم، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، حتّى انقضاء الدهر.
ومن هنا، يؤكّد البابا أنّ الإيمان “واحد” لأنّ الله واحد، وعلينا أن نعترف بهذا الإيمان بكلّ نقاوته واستقامته. ويأتي الروح القُدُس لتأييد الكنيسة الجامعة فتصبح ضمانة للحفاظ على الإيمان القويم.
هـ- الفصل الرابع: “يُعدّ الله لهم مدينة” (إلى العبرانيّين 11/16)
يتوقّف الفصل الرابع عند الرباط بين الإيمان والخير العامّ، لافتاً إلى أبعاد الإيمان الاجتماعيَّة والترابط بين الإيمان والعدالة والسلام.
إنّ الإيمان ليس فكراً مجرّداً، بل هو واقع محوِّل. والإيمان في ارتكازه على المحبّة يُحدث الرابط الأعمق بين البَشَر، الذي ليس هو المصلحة بل المحبّة والشركة. فالإنسان مسؤول عن العالَم الذي يعيش فيه.
وتتوقّف الرسالة العامّة بالتالي عند مختلف الوقائع البَشَريَّة المستنيرة بنُور الإيمان، ويذكر منها:
– العائلة: هي منبت الإيمان، حيث ينشأ الأولاد على محبّة الله والقريب.
– الشبيبة: نتعلّم منها النموّ في الإيمان، وفرح الإيمان، والالتزام بعيش الإيمان بثبات وسخاء.
– الطبيعة: إنّ الإيمان بالله الخالق يحثّنا على احترام الحياة، وحِماية الطبيعة وقوانينها التي وضعها هو نَفْسه، والمحافظة على البيئة.
– الألم: إنّ نُور الإيمان يجعلنا نشعر بآلام الفقراء، مثل القدِّيس فرنسيس والأُمّ تيريزا، ويدفعنا لتخفيف معاناتهم.
إنّ الإيمان يوطّد العلاقات بين البَشَر. فأيادي الإيمان ترتفع إلى السماء، ولكنّها، في الوقت نَفْسه، تمتدّ بالمحبّة لبناء مدينة ترتكز على علاقات أساسها محبّة الله.
فالإيمان لا يبحث عن المدينة الفاضلة الطُوباويَّة، أو عن المدينة السماويَّة “أورشليم الجديد” وحسب، بل يسعى لبناء مدينة الأرض يعيش فيها البَشَر بروح الأخوّة الشاملة.
ح- الخا
تمة: “طُوبى لمَن آمنتْ” (لوقا 1/45)
يختم البابا رسالته بتقديم مريم العذراء “كإيقونة كاملة للإيمان“. فهي كانت تسمع الكلمة، وتحفظها في قلبها، وتعمل بها، وترى بنُورها جميع الأمور، فهي مثال وقدوة لكلّ مؤمن.
عندما تلقّت مريم العذراء بشارة الملاك حملت في أحشائها “الإيمان والفرح“. بإيمانها أعطتنا ثمراً. وحين يأتي الثمر ينمو معه الفرح.
وتابعت مريم مسيرتها باتّباع يسوع. وهي تساعدنا اليوم كي نبقى ثابتين في إيماننا، وتذكّرنا بأنّ المؤمن ليس وحده أبداً، وتعلّمنا بأن ننظر بعين المسيح كي يصبح نُوراً لدربنا، حينئذٍ، يتوهّج فينا نُور الإيمان إلى اليوم الذي نصل فيه إلى “ملء قامة المسيح” (أفسُس 4/13).
3- رسالة البابا والشرق
إنّ رسالة البابا “نُور الإيمان” موجَّهة إلى جميع الكاثوليك أينما وجدوا، وإلى ذوي الإرادة الحسنة من مسيحيّين وغيرهم. وهي ولا تخصّ بالذِكر مسيحيّي الشرق، وإلاّ لأصبحت إرشاداً رسوليّاً. وهذا ما قام به البابا بندكتُس السادس عشر بإرشاده الرسوليّ “الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة“، كما أسلفنا.
ولكنْ، لا بدّ لنا أن نتلمّس في الرسالة العامّة “نُور الإيمان” إشارات ومحطّات تفيدنا في رؤيتنا تجاه الأحداث التي نعيشها.
إليكم بعض العلامات من خلال عبارات قصيرة نجدها في الرسالة:
أ- “المؤمن لا يكون متعجرفاً”. بل على العكس، إنّ الحقيقة تجعله متواضعاً. فليس هو الذي يملك الحقيقة، بل هي الحقيقة التي تكتنفه وتتملّكه. إنّ ثباته في الإيمان لا يجعله متحجّراً، بل يدفعه للمضيّ قُدُماً ليشهد ويتحاور مع الجميع.
إنّ نُور الإيمان محاط بهالة من المحبّة. ولذلك، لا تستطيع أن تفرضه على الآخَر. الإيمان مبنيّ على حقيقة المحبّة، وما من حقيقة تُفرَض بالعنف وتسحق الآخَر. وهو متسامح، يتعايش مع الآخَر، في احترام وبحث مشترك عن الحقّ.
كلّ التيّارات الأصوليَّة والتوتاليتاريَّة لا تحترم حرّيَّة الإنسان، وتفرض مبادئها بالقوّة، وينتج عنها التعصّب والتطرّف.
ربّما هذا ما نعيشه اليوم من قتل وعنف وحقد ورفض الآخَر، لأنّ الدِين أصبح مُلْكاً خاصّاً نتحكّم به كما نريد، بعيدين عن روح المحبّة.
الإيمان يُعرَض ولا يُفرَض: PROPOSER ET NON IMPOSER. ومن هنا، رسالة المسيحيّ للحِوار مع الديانات الأُخرى، حتّى مع الوثنيّين والملحِدين.
ب- “إنّ مَن يؤمن يرى”. هذه العبارة هي خلاصة تعليم البابا فرنسيس في “نُور الإيمان“. فالمؤمن يرى ما هو جوهريّ: سرّ تجسّد ابن الله، الذي بموته وقيامته، كشف عن الحُبّ بكلّ كماله وعُمقه.
نحن أيضاً مدعوّون لكي ننظر بعينَي المسيح. ولأنّنا مؤمنون نرى في ما نعيشه اليوم سرّ حضور الله بيننا “عمّانوئيل”، وسرّ صمته وغيابه، وسرّ الصليب والألم، وسرّ القيامة والخلود.
قال يسوع لمرتا التي كانت تبكي موت أخيها: “ألم أقلْ لكِ إنّك إن آمنتِ تَرَينَ مجدَ الله؟” (يوحنّا 11/40).
إنّ ما نعانيه اليوم من الآلام لا يعادل المجد الذي سيتجلّى فينا لأنّنا، إذا شاركناه آلامه، نشاركه في مجده أيضاً (راجع روما 8/17-18).
ج- “لا تتركوا الرجاء يُسرَق منكم”. أي بتعبير آخَر: لا تفقدوا الرجاء! فكما أنّ هناك علاقة عضويَّة بين الإيمان والمحبّة، أيّ الحقيقة المستنيرة بالمحبّة، كما ذكرنا، كذلك ثمّة علاقة عضويَّة بين الإيمان والرجاء.
إنّ الرجاء يدفعنا إلى المستقبل الأكيد الذي لا يُبنى على أوهام تحملها إلينا أوثان العالَم المعاصر، بل بالعكس يعطينا قوّة واندفاعاً لنواجه الحياة اليوميَّة.
أليس هذا ما نحن في حاجة إليه اليوم؟
الإيمان ليس نظريّات وعقائد ومماحكات، بل نَفَسٌ يُحيي حياتنا اليوميَّة ويغذّيها لأنّه يزرع فينا الرجاء بعالَم أفضل يجد كماله في ملكوت السموات.
لا نظنّنّ أنّ الإيمان يلغي كلّ الظلمات التي تحيط بنا، بل هو نُور يقود خطانا في الليل. وهذا يكفي لمتابعة الطريق.
“الرجاء لا يخيّب أبداً” (روما 5/5).
الخاتمة
في الظروف التي نعيشها يوضَع إيماننا على المحكّ. ورسالة البابا تدعونا لكي نعترف بهذا الإيمان الذي ورثناه، وأن نعلنه بجرأة، ونشهد له بالمحبّة بعضنا تجاه بعض وتجاه الآخَر، ونحمله في “آنية من خزف” لنسير في نُوره نحو مستقبل مليء بالرجاء.
ما قدّمتُه لكم ما هو سوى مقدّمة لرسالة البابا “نُور الإيمان”. ولكنْ لا بدّ من قراءة الرسالة بكاملها لنتذوّق كامل محتواها. فهل يمكن اختزال ستّين صفحة في بعض من صفحات؟
لقد تُرجمتْ هذه الرسالة، منذ يوم صدورها، إلى اللغة العربيَّة. فأتمنّى أن تُطبع وتُنسخ وتُوزّع على المؤمنين، وتصبح مادّةً للدراسة والحِوار والتعمّق بين الإكليرُس وبين أعضاء الأخويّات.
إنّ الإيمان ليس “قفزة في الفراغ” وليس “شعوراً أعمى”، بل هو “حرّيَّة متنوّرة لا ظلام فيها”. فهنيئاً لمَن “يبحث عن الله” و”يسير في هديه لعمل الخير”، لأنّ “الحياة عظيمة وجميلة”.
وفي الختام أعرض لكم هذه الحادثة التي ذكرها قداسة البابا في رسالته: “عندما سأل الحاكم الرومانيّ (روستيكوس RUSTICUS) أحد المسيحيّين (هييراكس HIERAX) المتأهّبين للاستشهاد: “أين هم أهلك؟”. أجاب الشهيد: “أبونا الحقيقيّ هو المسيح، وأُمّنا هي الإيمان به”. ما أجمل هذا الجواب! فبالإيمان نولد لحياة إلهيَّة ويشرق النُور في وجودنا لنصبح
شهوداً للمسيح.
وهذا الجواب يحاكي ما كتبه في العام 451م القدِّيس وارطان ورفقاؤه الشهداء للمَلِك الفارسيّ “يا زكيرد” الذي كان يهدّدهم بالموت إن لم يجحدوا إيمانهم بالمسيح ويعبدوا الأوثان. وقد سطّروا هذه العبارة معلنين اعترافهم بإيمانهم الذي لا يتزعزع: “نحن نعترف بالإنجيل أباً لنا، وبالكنيسة أُمّاً لنا”.
علّنا نجدّد اليوم إيماننا قائلين مع الرُسُل: نحن نؤمن، يا ربّ، “فَزِدْنا إيماناً” (لوقا 17/5).
لجنة سنة الإيمان
محاضرات التنشئة المسيحيَّة
جمعيَّة التعليم المسيحيّ بحلب، 8 ت1 2013
المطران بطرس مراياتي
رئيس أساقفة حلب وتوابعها
للأرمن الكاثوليك