يقولُ المطران يوسف توما : في قصّة الضلع السومريّة ، ونوم آدم ، وخلق المرأة ؛ هنا اللغة رمزيّة : لا يوجد حبّ حقيقيّ إلاّ إذا كان مُجسّدا ومطابقا لما يسكن في أعماق صدورنا . والصدر كالقفص ، والإنسان فيه سجين ، كالبلبل الحزين . تنعكس فيه صورة الآخر ، كتجسّد للفراغ والإنتظار والرغبة الحارقة ، فأنتظر الآخر ليملأني ويملأ فراغي ، وهذا الفراغ من صنع الله ، وضعه فيّ يوم خلقني …. ” . في الإنسان ، هناك مرحلة ناقصة في حياته ، هذه النقصُ هو لله .. ولا أحد يمكنه أن يسدّ هذا النقص سوى الآخر .
في الحبّ ، يبدو الآخر كـــ” جواب ” ، كحلم راودنا طوال الحياة كما تقول فيروز في احدى أغانيها ” أنا زارني طيفك بمنامي قبل ما أحبك ، طمعني بالوصل وسابني وأنا مشغول فيك ” . الإنسان متسكّع على دروب الحبّ يستجدي ، وإذا لم يكن موجودًا ، يجب أن يقتلعه من أحدى اضلاعه . الكاتب اليهويّ فعلا شاعرٌ مدهش .
يمضي كاتبنا في تفسير الحبّ : الحبّ يوقض فينا الشعور بالإمتنان ، ويفتح آفاق المصير الألهيّ . فعندما نشغف بالآخر ، يبدو الآخر لنا كمصير يتحكم بنا (وهذا شعور كلّ المحبّين – صعبٌ أن نفسّر لماذا أحببتكْ (أحببتُك ِ ) ) ، كمرسل ٌ من الله ، نقع فيه كالعميان (مع العلم أنّ الحبّ ليس بأعمى ! ) ، لم نختره ، ولم نقرّره . إنها لحظة حاسمة نشعر فيها بسعادة جنونية كإنطلاقة من قواعد ” الأنا ” ، ودعوة كامنة لا يمكن التخلّص منها : ” إنها هي التي أريدها ” . هذا كان صراخ آدم . صراخٌ يعبّر عن الدهشة والخضوع والضرورة العميقة . هكذا عاش كلّ المحبّين .
المحبّ يبحث عن اسم الحبيبة (تك 23 )
عندما يرى آدم المرأة التي أعطاها إيّاه الله ، أوّل شيء يعمله انه يطلق عليها ” إسمًا ” . وهو مشتقّ من أسمه كنوع من قرابة الدم العزيزة على الشرقيّين. لكن المهمّ هنا ، ليست القرابة بل التسمية . فكما حدث في تسمية آدم للحيوانات ، حين قال عن كلّ منها شيئا مهمّا ، ليبيّن ما بينه وبين الطبيعة من علاقة . عطيّة الإسم للمرأة ليست جعلها جزءًا من ” امبراطوريّته ” . فهو كالملك ، خلع عليها إسمًا ، ألبسها إيّاه ، ميّزها به ؛ لكنّه اسم على مسمّى ، اقتلعه من طبيعتها ، فأسمها يفرض نفسه بديهيّا : ” عظمٌ من عظامي – ايشا من ايش ، أنها شبيهة ومختلفة حتى العظم ، مختلفة وشبيهة في آن واحد ، وما اللغة سوى محاولة لإظهار هذا الشبة وهذا الإختلاف .
كلّ لغات العالم تكشفُ هذا الأمر . آدم يكتشف الطبيعة والخلائق بأسماء معيّنة لا يذكرها الكاتب ، لكن اسم المرأة يذكره ، وكأنه نهاية مطاف الأسماء وغصّة اللغة ، فتأخذ الكلمة الأخيرة مكانها الحقيقيّ لتسمية الحبيبة .
إذن ، هنا ، نكتشفُ تعبيرٌ عن حقيقة كونيّة : لا شيء يفسّر لنا الحبّ مثل التسمية . الحبّ هو عبارة عن بحث متوتّر عن اسم يليق بالحبيب (كم يحتارُ المحبّ اليوم في أن يلاقي أسماءً كثيرة يوصف بها حبيبته فلا يجد إلا التعابير المجازيّة ، وأيضا الأمثال : أنت كـــ ” مثل ” … الخ ) .. إنه قلق يريد أن يفهم الآخر ويقترب من جوهره ، أن يخصّصه ويميّزه عن الآخرين . فمن يقع فريسة لشبكة الحبّ ، يشعر بهذه الحيرة أمام ما يشبهني وما يختلف عنّي .
الإنسان يسمّي ، وفي نفس الوقت ، يطرح السؤال : من أنت ؟ كلّ المحبّين يغردون بأسماء تعبّر عن فرحهم بإكتشاف الآخر من أوجه متعدّدة . كلّ الأسماء التي يطلقونها لا غاية لها سوى محاولة لرأب صدع الفشل : إذ ليس هناك من إسم يكفي الآخر ويشمله ويغطّيه ويستره ، إلاّ إسم قريبْ من أسمي ، قريب من القلب وبعيد عن اللغة ، فالعجز في كلّ لغة ٍ عندما يقترب من هذه المنطقة الخطرة . لذا ، يأتي أسمها ” امرأة ” من ” امرئ ” : ايشا من ايش ، (موجودة من الموجود ، معاصرة لوجودي أنا ) ، هذا الإسم هو أرقّ ما في اللغة وهو خضوع واستسلامٌ بدون شرط لهذا العجز بسبب الدهشة التي أيقضتها فيه .
يتبع (عندما ينضج الحبّ ، يترك الرجل أباه وأمّه ) … معنى ” الترك ” ؟