Christ Pantocrator in the Cathedral of Cefalù

WIKIMEDIA COMMONS

ما هو مجيء المسيح الثاني؟

مجيء المسيح لا ينسجمُ على الإطلاق مع زمن التاريخ ومع نواميس سيره ، وبالتالي لا يمكن أبدا أن يُحسَبَ بأيّ شكل من الأشكال إنطلاقا من التاريخ عينه

Share this Entry

إنّ الإيمان ليس علمًا يكشفُ لنا بالتدقيق غوامض الماضي فيعلّمنا كيف نشأ الكون ووجد الإنسان ، ولا غوامض المستقبل فيُنبئنا كيف ستكون نهاية العالم وحياة الإنسان بعد الموت . فإنّما الإيمان علاقة حياة بين الله والإنسان . فالمؤمن يرى أنّ الله مبدأ وجوده ومصير حياته ؛ والمسيحيّ يؤمن أنّ الله قد ظهرَ في العالم ظهورًا نهائيّا (أو ، حسب التعبير اللــاهوتيّ اليونانيّ ، ظهورًا اسختولوجيّا)  في شخص يسوع المسيح . فالمسيح هو الألف والياء ، البداية والنهاية ، الأوّل والآخر ، المبدأ والغاية .

المجيء الثاني هو تأكيد انتصار ” المحبّة الإلهيّة ” . إنّ حياة يسوع وموته هما الدليل الثابث على محبّة الله وأمانته . لكن ، قد يبدو قول ” محبّة الله ” قولا نظريّا ، إلاّ أنّ يسوع الذي عاش بين البشر وأحبّ ، وتعذّب واحتمل الظلم ، ليس كائنا نظريّا هوائيّا أو فكرة اسطوريّة أو محض خيال ، بل هو الحقيقة الواقعيّة الفعّالة والمحسوسة في تاريخ حيّ . عندما ننظر إليه تستنيرُ النواحي المظلمة من الحياة البشريّة وتأخذ هيئة نورانيّة ، وتتحوّل الفوضى إلى تنظيم ، ويتحوّل العذاب والظلم والشرّ واللامعنى الذي كثيرًا ما يهدمُ إرادة الخير والحقّ ، على ضوء صليب المسيح ، بالإتجاه المعاكس .

المجيء الثاني ، هو ترقّب ما سيصنعه الله للعالم في المستقبل على ضوء ما صنعه لأجله في الماضي . في مجيء يسوع الناصريّ الأوّل ، وفي كلّ أحداث حياته وموته ، أظهرَ لنا الله محبّته ظهورًا خفيّا وجزئيّا في بقعة من الأرض وفي قلوب عدد ٍ يسير ٍ من المؤمنين . إيماننا بالمجيء الثاني هو الإيمان بأنّ تلك المحبّة ستظهر ظهورًا علانيّا نهائيّا شاملا : ” يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله . إنها أصغرُ البذور جميعًا ، بيد أنها إذا نمتْ تصير أكبر البقول جميعًا ، ثمّ تصبح شجرة حتى أنّ طيور السماء تأتي وتعشّش في اغصانها ” ( متى 13 : 31 – 32 ) .

معنى هذا ، أنّ بذرة الله الخلاصيّة ، من خلال دخولها باطن التاريخ الإنسانيّ ، تحوّله ، رغم مآسيه وصراعاته وظلامه ، إلى حقل لملكوته السماويّ . هو ولادة الإيمان بأنّ تاريخ العالم القاتم سيصلُ إلى نهايته حيث ستشرق عليه محبّة الله.الإيمان بالمجيء الثاني ، هو تفسير للتاريخ إنطلاقا من الإيمان ، ولكن هذا التفسير ليس تفسيرًا إعتباطيّا ، بل يستندُ إلى التاريخ : إلى حياة يسوع التي أظهرت قوّة الخير ، وإلى موته الذي أعلن قوّة المحبّة الخلاصيّة .

الإيمان بحقيقة المجيء الثاني ، يجب أن يبتعدَ عن فضوليّات الإنسان المعاصر اليوم . المهمّ فقط ، بالنسبة ليسوع ، هو ” اليقظة والسهرو الصلاة ” ! الإيمان بالمجيء الثاني ، في هذه الحالة ، هو يقيننا أنّ العالم لن يجد ملئه بقوّته الذاتيّة ، والتاريخ لن يجد إكتماله بتطوّر شرائعه ونواميسه . فالعالم والتاريخ بحاجة إلى قوّة تفوقهما وتمنحهما الملء والإكتمال .

الإيمان بعودة المسيح هو العمود الثاني في الإعتراف المسيحيّ . فهذا الذي اتّخذ جسدًا ، ويبقى الآن وعلى الدوام إنسانا ، والذي فتح إلى الأبد في الله مجال الكائن الإنسانيّ ، يدعو العالم أجمع إلى ذراعي الآب المفتوحتين ، حتى يصير الله ، في النهاية ، كلّا في الكلّ ، وحتى يستطيع الابن أن يجمع العالم فيه ، ويقدّمه إلى الآب .

يقول الأب وليم ج. فولكو اليسوعيّ : ” الإيمان بيسوع ، يعني وضع ثقتنا خارج انفسنا  ، ومثل الحبّ ، ينظر إلى المستقبل . الإيمان هو في يسوع . وهذا يعني القفز خارج حدود الزمان والمكان ، مؤكّدا أنّ المستقبل سيكون لي ، في يسوع المسيح وبفضله. ويرى الإنسان المؤمن أنّ الماضي جزء لا يتجزّأ من تاريخه ، وأيضا هو آت ٍ(…) الإيمان يحترم المستقبل ، ويضعُ ثباتنا في يسوع الذي هو آت ٍ ..”

ويُتحِفنا البابا بنديكتوس السادس عشر حول عودة المسيح ويقول : “(….) مجيء المسيح لا ينسجمُ على الإطلاق مع زمن التاريخ ومع نواميس سيره ، وبالتالي لا يمكن أبدا أن يُحسَبَ بأيّ شكل من الأشكال إنطلاقا من التاريخ عينه . وحيثُما يُحسَب ، يلجأ الإنسان إلى المنطق الخاصّ بالتاريخ ، وبالتالي يخطئ عمله بالضبط الصلة بالمسيح ؛ فالمسيح ليس نتيجة  التطوّر ولا مرحلة جدليّة في مسيرة العقل ، بل هو الآخر الذي ، من الخارج ، يفتح أبوابَ الزمن والموت ؛ فمجيئه بحدّ ذاته لا يمكن أن يؤرّخ . الجواب الوحيد على مسألة ” العلامات ” وعلى كلّ محاولة ٍ لوصف مجيء المسيح ، لا يمكن إلا أن يكون رفض هذا السؤال واستبداله بالنداء التالي : ” وما قلته لكن أقوله للجميع: اسهروا ” (مرقس 13 : 37 ) . المقابل الإنسانيّ لعلاقة المسيح القائم من بين الأموات ، بزمن العالم ليست فلسفة التاريخ ولا لاهوت التاريخ ، بل ” السهر  ” . السهر واليقظة والوعي ليس فكريّا فقط وبطريقة نظريّة ، بل بوعي المحبّة الإلهيّة والمسامحة والغفران والرحمة والتواضع والصلاة . ” مجيء المسيح الثاني  هو عملُ محض من الله ولا علاقة له بالتطوّر الطبيعيّ ولا بالتاريخ ولا بأيّ حساب زمنيّ وتاريخيّ ” .

إنّ نهاية العالم التي يؤمن بها المسيحيّ هي شيءٌ مختلف عن فوز التقنيّة النهائي ، ولكن الخلط الذي أحدثته التقنيّة بين الطبيعة والروح يسمح لنا أن نفهم ، بطريقة جديدة ، كيف يجبُ أن يتوجّه تفكيرنا حول حقيقة الإيمان بعودة المسيح : كإيمان بتوحيد ٍ نهائيّ للحقيقة إنطلاقا من الروح . أيّ أنّ المجيء الثاني للمسيح ، هو ظهور الحقيقة الكاملة المطلقة للإنسانيّة و
للتاريخ وإسقاط كلّ الأقنعة والتصنّعات والتزييف . سيشكّل الروح الحقّ في المادّة والجسد والتاريخ ويعطيهم ناموسًا جديدًا  ، ويوحّد الكيان ، ويُلاقي كلّ الأجزاء المتباعدة ، وبالتالي ، سيحوّل ” المجيء الثاني ” الأفراد إلى أشخاص ذوو علاقة وليس فقط أفرادًا ضائعين مشتّتين في متاهات غامضة حُجِزوا فيها بسبب أفكار إبليسيّة تعصفُ حيواتهم ، وتبعدهم عن الحقّ والصدق وصنع الخير .

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير