كيف أتحدث عن الثالوث الأقدس؟ الصورة الأسهل للحديث عن الثالوث الأقدس هي صورة الحب. فلنكتشف كيف:
الحب فعل يدفع الإنسان للخروج من ذاته. عندما نحب، نُحبّ بالضرورة شيئًا أو أحدًا. فالحب بطبيعته يتوق إلى آخر-مختلف.
عندما نقول مع القديس يوحنا: “الله محبة” (1 يو 4، 8 . 16)، نقول بالضرورة أن الله منفتح على “آخر”.
من هو هذا الآخر؟
إذا أجبنا: “العالم” أو “الإنسان”، يكون جوابنا خطرًا لسببين:
– أولاً، نصرح بأن الله، قبل خلق العالم والإنسان في الزمان (وهذا اعتقاد الأديان السماوية: العالم ليس أزليًا)، لم يكن محبة!
– ثانيًا، نصرح بأن الله كان بحاجة للعالم وللإنسان لكي يحقق ذاته، لكي يخرج من أناه وأنانيته الأزلية. فالحب المنطوي على ذاته ليس حبًا، هو أنانية، هو انغلاق.
إن الإيمان المسيحي، ارتكازًا على ما علّم يسوع بشأن الله، فهم أن الله محبة منذ الأزل، قبل الخلق وقبل الزمان.
في البدء لم يكن هناك الصمت والوحشة، بل كان هناك الكلمة والشركة، شركة المحبة. حوار الحب هذا هو الروح القدس، “روح المحبة” الذي يوحد الآب بالابن.
من رأى المحبة، رأى الثالوث
في كتابه الرائع حول الثالوث الأقدس، يشرح القديس أغسطينوس بأن كل فعل محبة حقيقي هو صورة عن الثالوث. ففي فعل المحبة هناك المُحِبّ، المحبوب والحب الذي يربط بينهما.
انطلاقًا من هذا التشبيه، يربط القديس الإفريقي التفكير بالثالوث الأقدس وحدس شيء من نوره بالمحبة. يقول أغسطينوس: “ترى الثالوث إذا رأيت الحب” (vides Trinitatem, si caritatem vides).
في الثالوث الأقدس، الآب هو المُحبّ، هو مصدر الحب، الابن هو المحبوب، هو الذي يجيب على الحب، والروح القدس هو الحب المتبادل.
نظرة متصوف من العصر الوسيط
ارتكز الكثير من اللاهوتيين والمتصوفين على تعليم القديس أغسطينوس بشأن الترابط بين المحبة والثالوث، وقد لمع في العصر الوسيط راهب اسمه ريكاردوس من دير سان فيكتور. وقد تأمل ريكاردوس بالثالوث الأقدس انطلاقًا من تشبيه الحب الشخصاني.
الحب بطبيعته هو واقع يدفع المرء للخروج من ذاته، هو نسيان للذات وانفتاح على الآخر.
لكي يكون هناك حب حقيقي، لا بد من أن يكون هناك آخر. ويجب على هذا الآخر أن يكون مساويًا بالكرامة، وإلا لما كان الحب حبًا، بل شفقة ورحمة.
هذا وإن أصالة هذا الحب تظهر من خلال خصبه وعدم سقوطه في فخ الانطواء على الثنائي. فالانطواء يطفي الحب بين الاثنين ويبين أن حبهما لم يكن كاملًا، بل “أنانية ثنائية” كما يقول عالم النفس أريك فروم. إن كمال الحب بين الأشخاص هو حب مساوٍ لهما يجمع بينهما.
يصعب علينا كبشر أن ندرك كيف أن الحب وهبة الذات لا يؤديان لإخلاء وإفراغ من يُحب. هذا الأمر يعود إلى محدودية خبرتنا للحب: فنحن نحب انطلاقًا من محدوديتنا وبالتالي يكون حبنا محدودًا مجتزئًا وكذلك وحدتنا بالمحبوب تكون محدودة. أما الله فهو يحب انطلاقًا من لا محدودية حبه، من قدرته اللامتناهية على الحب والعطاء، وعليه فحبه كامل ويولد وحدة كاملة.
هو الحب في الله الذي يجمع بين ما قد يبدو متناقضًا لأول وهلة أي التعدد والوحدة. في الله تعدد لأن المحبة تطلب التعدد ولكن الله واحد لأن المحبة تؤدي إلى وحدة. وبما أن محبة الله كاملة فوحدة الله كاملة.
الوحدة في الثالوث ليست مصيرًا لا محالة منه، هي فعل محبة، هي دينامية، هي حياة.
الله واحد ولكنه ليس مستوحشًا، الله ثالوث لكنه ليس “عائلة” آلهة. فالمحبة الكاملة هي وحدة كاملة أعمق بكثير من وحدة تنبع من الرقم واحد.
(يتبع)