بقلم الأب هاني باخوم نائب مدير اكليريكة ام الفادي بلبنان
روما، الأربعاء 7 أكتوبر 2009 (Zenit.org) – “الهي الهي لماذا تركتني؟” مع هذه الصّرخة، صرخة يسوع المسيح على الصّليب، نسمع صرخة كلّ انسان يتألّم على وجه الأرض. صرخة لا تعبر فقط عن الم جسديّ او نفسيّ او معنويّ، بل تعبرعن لوم وعتاب لله. لوم وعتاب، وفي نفس الوقت طلب مساعدة واستغاثة من الاله نفسه. صرخة ترغب ان تصل إلى أعالي السّماوات وتقول للرّبّ لماذا اتألم؟ الم تخلقني لكي اشاركك لكي اعرفك واحبّك واكون سعيدا؟ فأين هي تلك السّعادة واين هو وعد خلاصك؟
مرّات عديدة، احداث الحياة وصعوباتها، آلامها واحزانها تجعلنا نشكّّ ونتساءل: حياتي هكذا، امرّ بكلّ هذا الالم، فأين وعد الله بالخلاص؟. من ناحية نعرف ان الله محبّة، ووعده وعد خلاص، ومن ناحية اخرى نرى ان احداث حياتنا تجعلنا نشكّ في هذه المعرفة، نرى ان تلك الاحداث تخفي بل وتُكّذِّبُ في اوقات كثيرة هذا الخلاص. من هنا تبدأ ازمة الانسان، ازمة ايمانه بين وعد صدقه وواقع يعيشه يجعله يشكّ في هذا الوعد.
“الهي الهي لماذا تركتني؟” هي مجموعة مقالات كتابية تحاول ان تستعرض هذا الموضوع: وعد الله الذي يبدو انه يختفي بين احداث الحياة من خلال حياة بعض الشّخصيات الكتابية. كيف عاش هؤلاء الاشخاص هذه الازمة؟ كيف عاشوا هذا التناقض بين وعد وواقع؟
ـ آدم وقتل ابنه على يد ابنه الآخر.
بعد الخطيئة وطرد آدم وحواء من الفردوس، يعدهما الله بالخلاص. يعدهما بنسل، منه سيأتي من سيسحق رأس الحيّة (تك 3: 15). اي ان وعد الله بالخلاص سيمرّ من خلال نسلهما، من خلال ابنائهما. وبالفعل تلد حواء ابنين: قايين وهابيل.
آدم وحواء يشاهدان ابنيهما يكبران ومعهما يشاهدان وعد الله ينمو ويبدأ بالتحقق. نعم نحن اخطأنا. هكذا يقول آدم وحواء، خالفنا وصيته وعصينا حبه، لكن الله لم يتركنا لنموت بخطيئتنا، وعدنا بالخلاص وها هو الوعد يتحقق. ها هو النسل امامنا ينمو. نعم ولدانا يكبران وسيكون لهما نسل يضمن استمرار هذا الوعد.
ولكن احداث الحياة تبدأ بإظهار عكس ذلك. لسبب او لآخريقتل قايين هابيل. نعم، النّسل الذي انجبه آدم ينقسم على ذاته، لدرجة انّه يرى موت ابنه على يد ابنه الآخر. يموت هابيل بلا ذنب، يموت بخطيئة اخيه.
فكم هي اوجاع آدم واحزان حواء؟ يشاهدان موت ابنهما. موت الابن في حد ذاته شيء بشع وشنيع لكلّ والد. فالابن ضمان الاستمراريّة، يضمن استمرار النّسل بعد موت الوالد. ولكن، ان مات الابن، من يضمن هذه الاستمراريّة ؟ فموت الابن هو موت مضاعف للوالدين. لكن هنا الامر اكثر بشاعة. فالابن مات، لا بل قتل على يد الابن الآخر.
يهرب قايين ويذهب شارداً على وجه الارض. فيبقى آدم وحواء من جديد بين وعد من الله وواقع ينفي هذا الوعد تماماً: وعد بنسل يسحق راس الحيّة وواقع نسل خاضع لمشورة هذه الحيّة. وعد بانسان لن سيحبّ الله بكلّ قلبه وفكره وقوته ومنه سيأتي الخلاص، وواقع انسان حسود يفكر بالسوء عن الله وتسوده الخطيئة (تك 3: 7).
تناقض بين ما يجب ان يكون وما هو الحال عليه. يبدو ان الوعد قد فشل، و ان الانسان قد نجح بخطيئته ان يدمرّ كلّ شيء، حتّى وعد الله. الواقع امامنا يثبت ان خطيئة الانسان هي اكبر من اي شيء اخر. فهي التي تبقى، بل تنمو وتثمر. في البداية كانت الخطيئة معصية لوصية الله والان اصبحت كرهاً، حقداً وحسداً من الانسان توصله للقتل. فأين الوعد واين الخلاص اذاً؟
لكن القصة لا تحاول ان تعطي اي تفسير لكلّ ذلك. القصة تستمر والكتاب يقول ان آدم وحواء ينجبان ابناً اخر: شيت. مع هذا الابن يبدأ نسل جديد، ولاول مرة يقول الكتاب المقدس ، نسل يدعو بأسم الرب (تك 4: 26).
فالوعد لم ينتهي اذاً. موت هابيل ليس بالنّهاية. موت هابيل ما هو الا إظهار لعمق خطيئة آدم وحواء. جذور الحسد والقتل التي اثمرت في شخص قايين نمت وترعرت على ينبوع خطيئة والديه.
لذلك موت هابيل ليس فشلاً للوعد ولكنه إظهار للواقع الذي من خلاله يجب ان يتحقق هذا الوعد. الرّبّ يسمح بهذا الواقع ليظهر ما فعلته الخطيئة بالانسان، لا يجمله ولا يحوله سحرياً. بل يظهره. وهنا يبدأ الخلاص: نسل يدعو الله. امام هذا الموت، امام هذا الفشل الظاهري لوعد الله امام موت هابيل، ماذا يفعل آدم ونسله؟ يدعون باسم الرّبّ. اي يطلبون عونه و يرجون خلاصهم من هذا الواقع. وكانهم يقولون “الهي الهي لماذا تركتني؟”.
فكيف يردّ الرّبّ؟ هل بالفعل ترك الرّبّ نسل ادم؟ هل نسي الله وعده؟ هل انتصرت خطيئة الانسان على رحمة الله؟….هذا ما سنراه في المرة القادمة….