حياة الكاهن الروحية (4)

مذبح الفقراء

بقلم رئيس الأساقفة عصام يوحنا درويش*

استراليا، الجمعة 15 يناير 2010 (Zenit.org). –.- في أوائل السبعينات وفي بداية حياتي الكهنوتية كنت مرشدا للشبيبة الطالبة المسيحية وكنت ألتقي مع مجموعة منهم في نهاية كل أسبوع نتبادل خبرات الحياة ونحمل في صلاتنا ما عشناه خلال الأسبوع المنصرم. في أحد اللقاءات فاجأتني إحدى الشابات وطلبت مني أن تتحدث عن إيمانها وكانت دهشتي كبيرة جدا حين قالت إنها اكتشفت يسوع في وجه الفقراء وإنها زادت إيمانًا حين سمعت عظة كاهن رعيتها يتحدث عن التطويبات[1]. تعلمتُ من هذه الفتاة أن الحياة الروحية لا تقوم بدون بُعدٍ اجتماعي ملتزم بقضايا الناس وبخاصة الفقراء منهم، فسر المذبح، أي الليترجيا الإلهية، لا ينفصل أبدا عمّا بَعدَ الليتورجيا أي عملي ككاهن مع الناس أو خدمتي الأخ المحتاج.

إن حضور الكاهن في العالم تُترجمه محبّته للناس ولاسيّما الفقراء والمحتاجين وأن أفضل ثمرة يقطفها من صلاته وتناوله جسد المسيح ودمه هي أن يفتح قلبه لهم ويعمل معهم في بناء ملكوت المحبة، لأن المحبة وحدها قادرة على بناء ملكوت الله. بهذا المعنى يمكن أن أفهم ما جاء في رسالة يعقوب الرسول: “إنّ التَّدَيُّنَ الطَّاهِرَ النَّقِيَّ عِندَ اللهِ أبينا هو العِنايةُ بالأَيتامِ والأرامِلِ في شِدَّتِهِم وصيانَةُ الإنسانِ نفْسَهُ من دَنسِ العالَم”[2]. على الكاهن أن يُترجم عمق روحانيّته ومحبته للمسيح بمواقف عملية تلتزم خدمة الإنسان الفقير وتحريره من حالته ومساعدته بشتى الوسائل ليعيش كرامة إنسانّيته ويعطيه مركز الصدارة في عمله الرعوي “يا من أنتم خدام المسيح وأخوته والوارثون معه، أغيثوا المسيح، أطعموا المسيح، أكسوا المسيح، استقبلوا المسيح..”[3].

أكثر من مرة أعلن يسوع تضامنه مع الفقراء وأضفى عليهم أحلى الصفات فهم قديسو الله “طوبى لكم أيها الفقراء، فإنّ لكُم مَلكوتَ الله”[4] أما العهد القديم فقد تحدّث كثيرًا عن الفقراء البائسين “إنَّ الربّ قد عَزّى شَعبَهُ ورَحِمَ بائسيه”[5] “أنظرُ إلى المسكين المُنسَحقِ الروح”[6] . فإذا كان الفقير موضع اهتمام الله بهذا الكم من التوصيات، فكيف لا يكون من صُلبِ اهتمامات الكاهن وواجباته؟ إن يسوع يطلب من الكاهن أن يتحرّر من طغيان المادة وأن يختار ما يليق بدعوته “ما من خادم يستطيع أن يعملَ لِسيّدين.. فأنتم لا تستَطيعونَ أن تَعملوا لله وللمال”[7]. فالكاهن مدعو إلى أن يشاطر يسوع الفقر ومحبة الفقراء “اذهب فبع كلَّ شيء تملكُه وتصدَّق بثمنه على الفقراء، فيكونَ لك كنزٌ في السماء، وتعالَ فاتبعني”[8] .

في صيف عام 1984 التقيت في مدينة روما الأم تريزا التي قضت حياتها في خدمة الفقراء  والمحتاجين والمرضى، وفي حديث لها للكهنة سردت لنا هذه الحادثة: ” جلبوا لنا رجلا من الشارع مليئا بالقروح ولم يكن أحد يجرؤ أن يقترب منه بسبب مرضه ورائحته الكريهة، استقبلته بفرح كبير وبعد أن انتهيت من غسله وتنظيفه نظر إلي وسألني “لماذا فعلت هذا ولماذا تهتمين لأمري، لقد رماني الجميع وأنت أتيتِ إليّ ولمستني؟ “فقلت له: “لأني أحبك فأنت بالنسبة لي تمثّل يسوع في بؤسه، إنه يشركك اليوم في آلامه”. رفع عينيه وقال لي ثانية: ” أنت أيضا تشاركينني بؤسي وفقري” فقلت له: “لا، أنا أشاركك المحبة وأحب يسوع من خلالك” وفي نهاية حديثنا تمتم هذا الرجل وهو يتألم: “المجد ليسوع المسيح”.

من المهم جدا أن يتعاطف الكاهن مع الأخوات والأخوة الفقراء ولكن مطلوب منه أيضا أن يعتنق حياة بسيطة تدل على قناعاته بمشاركتهم ظروف حياتهم. فمن المؤكد أن يسوع عندما أعلن لتلاميذ يوحنا المعمدان أن “الفُقراء يُبَشَّرون”[9] كان يعني إبلاغهم خبرا مفرحا؛ وأية بشرى أفضل لهؤلاء من أن يترجم لهم عمليّا الكاهن، حامل البشرى والمؤتمن عليها، بأن الله يحبهم ويريد أن يُغيّر أوضاعهم ويحررهم من كلّ حرمان يعيشونه! من المؤكد أن الكاهن يعجز عن إعلان أي خبر مفرح لليتيم والفقير والمعوز ما لم يختبر هو هذه الأوضاع الاجتماعية الصعبة وما لم يورّط نفسه بالعيش مثل هؤلاء.

إن الوثيقة التي أصدرها البابا يوحنا بولس الثاني حول الاهتمام بالشأن الاجتماعي، تتطرق إلى هذا الموضوع المهم في حياة الكاهن ورسالته: “إن الاهتمام المجدي بالفقراء – وهم، بحسب الصيغة المعبرة جدًا، “فقراء الرب” – يجب أن يترجم على جميع المستويات، إلى أعمال محسوسة..”[10]. تبعا لذلك أتمنى أن تقوم في كل رعية لجان فعّالة تهتم بالمحتاجين والفقراء واليتامى والمسنين والأرامل لأنهم المذبح حيث يقدم الكاهن القرابين ولأنهم أيضًا صورة المسيح الذي ولد فقيرا وعاش مثل فقير ومات مثل فقير “تعلمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح؛ كيفَ افتقرَ لأجلِكُم وهو الغنيُّ لِتَغتَنوا بِفَقرِه”[11]. لقد وضع الأب أنطوان شفرييه قواعد ثمينة للكاهن ليعيش الفقر: “نتخلّى عن خيرات الأرض، نكتفي بالضروري، نعطي كل من يطلب، لا نتدخل في الأمور الزمنية، لا نطلب شيئا من أحد، لا نهتم بالمستقبل ونتكل على الله وحده”[12].

بعماده ينتمي الكاهن إلى كنيسة الله وبرسامته كاهنا ينتمي إلى كنيسة الفقراء فمثلما يتلهّف ليسمع كلمة الله ويتأمل بها هكذا هو مدعو ليصغي إلى أصوات الفقراء والصغار والمتواضعين، لأنه بدونهم لا يستطيع الاحتفال بليتورجية الله و
لا بكسر الخبز.

Share this Entry

[1]  متى 5/1- 12

[2]  يع 1/27

[3]  من عظات غريغوريوس النزينزي

[4]  لو 6/20

[5]  أش 49/13

[6]  أش 66/2

[7]  لو16/13

[8]  مر 10/21

[9]  متى 11/5

[10]  رسالة البابا يوحنا بولس الثاني في الذكرى العشرين للرسالة العامة “ترقّي الشُعوب، رقم 43

[11]  2كور 8/9

[12]  التلميذ الحقيقي لسيدنا يسوع المسيح، الشرط الخامس، اتبعوني في فقري

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير